بيار أبي صعب
Meeting Points غداً في بيروت

لعلّ حضور آن تيريزا دي كيرسماكر هو الحدث الأبرز، بالنسبة إلى الجمهور العربي، في برنامج «نقاط لقاء»، المهرجان المتعدد التوجهات والفضاءات الذي يسدل الستار، مع نهاية الأسبوع، على محطته اللبنانيّة.
تشارك الراقصة والكوريغراف البلجيكيّة وفرقتها «روزاس» في المهرجان الذي ينظمه «صندوق شباب المسرح العربي»، (بإشراف فنّي من فري لايسن ومساعدتها مها مأمون، وبالاشتراك مع جمعيّة «أشكال ألوان» في لبنان)، عبر أربع محطات عربيّة هي تونس والقاهرة ودمشق وبيروت، حيث تنهي جولتها مساء الأحد في «مسرح المدينة».
آن تيريزا ليست اسماً بين الأسماء، في مسار الرقص المعاصر، بل واحدة من الذين جدّدوا هذا الفنّ في الثمانينيات، وأعطوه زخماً خاصاً، من خلال ابتكارات جماليّة وكوريغرافيّة شتّى. ويمكننا أن نعتبر مشاركة هذه الفنانة في «نقاط لقاء»، هديّة حقيقيّة للثقافة العربيّة، ولجمهور الرقص في العالم العربي. وتشاء عبثيّة القدر أن تتزامن زيارتها لبيروت، مع أزمة سياسيّة وكيانيّة تضني هذا البلد، وتذكّر بتمزقات بلجيكا، هي الفلمنكيّة التي تقاوم بشدّة لعبة الانقسام الأهلي في بلدها.
اختارت آن تيريزا دي كيرسماكر (١٩٦٠) استعادة عملين سابقين لها: الأوّل عرض منفرد قدمته في تونس والقاهرة، بعنوان Once («ذات مرّة» ـــــ ٢٠٠٢). سولو ضدّ الحرب، ترصد فيه مرور الزمن وتغيّر العالم، ترقصه على صوت جون بايز وبوب ديلان. ويقتصر الديكور على تيرموس قهوة وآلة لتشغيل الأسطوانات القديمة، وأسطوانتين فينيل، ٣٣ لفّة، للفنانين المذكورين اللذين اعتبرا من رموز أغاني الاحتجاج الأميركيّة (بروتست سونغز). أما حصّة دمشق وبيروت، فعرض آخر بعنوان Fase («فازة»، أو فقرة أو فترة ــــ ١٩٨٢). إنّه العمل التأسيسي الذي شهرها وحدّد مسارها الفنّي طوال ربع قرن.
كانت آن تيريزا عائدة للتوّ من دراستها النيويوركيّة (تيش سكول أو ذي آرتس)، بعد سنتين في مدرسة بيجار البلجيكيّة (Mudra)، حين خاضت مغامرة Fase. في نيويورك اكتشفت الـ«بوست مودرن دانس» (الرقص ما بعد الحديث)، والتجارب الطليعيّة في الفن، والموسيقى المينماليّة التكراريّة مع فيليب غلاس وجون أدامس و... ستيف رايتش. هذا الأخير هو ملهم كوريغرافيا Fase التي لم يتجاوزها الزمن، وما زالت بعد ٢٥ عاماً راهنة ونضرة ومعاصرة. مقطوعات رايتش (Violon phase, Piano Phase، الخ) تقوم على التلاعب بالوتيرة الزمنيّة لجمل لحنيّة متقشّفة، متشابهة، تتلاحق في فترات (فازات) زمنيّة غير متجانسة، ما يجعل المقطوعة تتأرجح بين التواتر phasage واللا ــــ تواتر déphasage، في حركة تكراريّة لامتناهية، تعود دائماً إلى نقطة البداية. هذه هي الموسيقى التي بنت عليها عرضها الصافي والمتقشف الذي ينضح شفافيّة وتفاؤلاً وخفّة وحباً للحياة.
كما في كل أعمالها اللاحقة، نلمس في جسد الراقصتين (آنا تيريزا وتايل دولفن)، وحركاتهما الدائريّة والهندسيّة، طاقة داخليّة مستمدّة من قوّة العمل نفسه. فمكانة الموسيقى من أهم الملامح المميزة لكتابة دي كيرسماكر الكوريغرافيّة. إنّها تقيم مع كل مقطوعة علاقة استماع وتفاعل خاصة، وتستند إلى الزخم الداخلي للعمل، لتحريك الأجساد، وإعادة تشكيل الفضاء هندسياً. باختصار، مصممة الرقص البلجيكيّة تنطلق في شغلها، من وقع الموسيقى على أجساد الراقصات والراقصين. هكذا تعاملت ذات مرّة مع موسيقى بارتوك («رباعي رقم ٤» ــــ ١٩٨٦)، لتحرّك أجساد فتياتها بالتنانير القصيرة، في رحلة نحو النضج وتفتح الأنوثة. وهكذا تتعامل مع شونبرغ من جهة ومنتيفردي من الأخرى، مروراً بباخ وموزار وبيتهوفن وليغيتي و... معاصرها تييري دي ماي. الموسيقى ـــــ الحاضرة غالباً من خلال عزف حيّ على المسرح ـــــ هي النبع السرّي الذي تتفجّر منه مفرداتها الحركيّة لتترقرق على الخشبة، وتتحكّم في كيمياء الأجساد، ناقلة تلك الطاقة الخفيّة في قالب دائم السعي إلى التصفّي والاختزال والمينيماليّة والنقاء. عادت آن تيريزا مراراً منذ Fase إلى ملهمها ستيف رايتش، وخصوصاً في رائعتها Rain («مطر» ـــــ ٢٠٠١). وما إن تفرغ من عرض بيروت، حتى تقفز في الطائرة، وتستأنف تمارينها على العمل الجديد الذي تقدّم عرضه العالمي الأول في باريس، في 11 كانون الثاني (يناير) من العام المقبل (موسيقى باخ، وأنطون فيبيرن، وألان فرانكو). على خشبة «مسرح المدينة» أيضاً، الباريسي هذه المرّة!

Fase ـــــ مسرح المدينة، بيروت. الأحد ٢٥ ت٢/نوفمبر، الثامنة والنصف ـــــ للاستعلام: 753010/01
الموقع الرسمي للفرقة: www.rosas.be