المنامة ــ حسن المصطفى
التظاهرة الغنية والمتنوعة التي تحتضنها المنامة منذ أسابيع، شارفت على نهايتها. مراجعة بانوراميّة لأهم محطات المهرجان الذي لطخته حملات التكفير، منذ عرض الافتتاح «مجنون ليلى»... وصولاً إلى الهجوم على المفكر الجزائري محمد أركون بحجّة «عدم إيمانه بقداسة النص القرآني»

«ربيع الثقافة» الذي ينتهي موسمه الثاني قريباً في المنامة، كان عاصفاً هذا العام. لقد إقترن في الأذهان بعرض «مجنون ليلى» الذي افتتح به الموسم، مطلع الشهر الماضي، ورافقه جدل وصخب. وبلغ الأمر حدّ مطالبة التيار الإسلامي في البرلمان البحريني، بتأليف لجنة تحقيق في ما اعتبره «إخلالاً بالأخلاق العامة» و«خدشاً للحياء» بسبب بعض المشاهد الراقصة ذات الإيحاءات الإيروسيةلكن برنامج ربيع الثقافة جاء حافلاً بالأعمال والنشاطات المهمّة. يكفي أن نذكر الحفلة التي قدّمتها كاميليا جبران. حملت كاميليا تجربة مختلفة هذه المرة، لكن الجمهور لم يتجاوب كعادته مع هذه الفنّانة المقدسية المميّزة. فالحضور الذي امتلأ به «مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة للثقافة والفنون»، انسحب بعضه من الصالة، إذ كان يتوقّع من الفنانة الفلسطينية أن تأخذه إلى القدس ويافا. كاميليا تميّزت بأداء يبرز التمازج بين اللحن والنصوص المغنّاة. الغرابة التي شعر بها الحضور مردّها إلى طريقة كاميليا في انتخاب لحنها، ونطقها الكلمات... فضلاً عن النصوص المختارة التي جاءت نثرية، غنيّة بالأبعاد الوجودية والفلسفية. نصوص لجبران خليل جبران، وبول شاوول، وفاضل العزاوي، وسلمان مصالحة، ضمنتها اسطوانتها الأخيرة «وميض» (2004) التي أنجزتها مع الموسيقي السويسري فرنر هاسلر، وتمثل انعطافة في مسيرتها الفنية. «وميض» تتويج للتغيير الذي بدأته الفنانة أواخر 2002، عندما قدمت عملها «محطات» بعد الانتقال إلى أوروبا، منهيةً بذلك تجربة استمرت سنوات مع فرقة «صابرين» الفلسطينية.
والجمهور الذي صدمته كاميليا، أعجب بغادة شبير، سيّدة الموشح اللبناني التي تفاعل معها بكثير من التأثّر. شبير التي غنّت منفردة كانت تقف للمرّة الأولى على مسرح عربي خارج لبنان، لتقديم موشحاتها... وغنت لعبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وعبد الحليم حافظ وفيروز، إضافة إلى أغان لبنانية تراثيةأما الفنّان البحريني خالد الشيخ العائد بعد انقطاع سنوات، فقدّم حفلة موسيقية وجّه خلالها تحيةً إلى قاسم حدّاد. وخاطب وزير الإعلام البحريني محمد عبد الغفار، قائلاً: «لا تعتذر عما فعلت» ليجابه بتصفيق حاد، ويصعد إلى المنصة عدد من ممثلي هيئات المجتمع المدني، في وقفة تضامنية مع حداد وخليفة. ما ميّز حفلة خالد الشيخ، هو مشاركة أسماء شبابية مثل مريم هاشم ويعقوب سعد ومحمد الحمادي وهالة صباغ في التفاتة أبرزت اهتمامه بالجيل الشاب ودفع تجربتهم إلى الصفوف الأمامية.
عروض موسيقية أخرى كان لها نصيبها ضمن المهرجان، لا سيما العرض الذي قدمته فرقة «كركلا» والحفلة التي قدّمها طوني حنا، برفقة الأخوين شحادة، وليلة خاصة بالموسيقى الصوفية الفارسية، أحياها الايراني سالار أغيلي.
أما الشعر، فمسألة أخرى... خصوصاً حين يكون الموعد مع أدونيس. كان لمهيار الدمشقي جمهوره العريض الذي ضاق به بيت «إبراهيم العريض للشعر». قرأ نصوصاً من ديوانيه «أول الجسد آخر البحر» و«تنبأ أيها الأعمى»، مختتماً أمسيته بنصّ مطوّل عن «بابل» تناول فيه عمق المأساة الوجودية في العراق. لكن نصوص أدونيس ـــ برأي كثيرين ـــ لم تقدّم إضافة إلى تجاربه وزياراته السابقة للمنامة. وذهبت في السؤال الوجودي والفلسفي، أكثر من اتكائها على شعرية اللغة. لا يعني هذا التقليل من أهميّة النصوص التي ألقاها أدونيس في ربيع الثقافة، بل القول إن الشعرية كانت بمثابة الوشاح الذي زيّن عمقها الفكري.
المفكّر الجزائري محمد أركون أثار الجدل في محاضرته التي حملت عنوان «قضية الأنسنة في المجتمعات الغربية والإسلامية المعاصرة». خلال المداخلات التي تلت المحاضرة، وجّه له الدكتور منذر عياشي نقداً لاذعاً، واتّهمه بأنه لم يقدم علماً، بل كان إنساناً ايديولوجياً، يبحث عن أنصار ومريدين... وأنه كان الأجدى به أن يحاضر كما يحاضر في الـ «سوربون» في طلبته. وهناك من اعتبر أن أركون يحابي الأنظمة العربية الحاكمة، فيما اتهمه آخرون بأنّه لا يؤمن بقداسة النص القرآني.
كان أركون متشنجاً، ردّ بغضب على المداخلات معتبراً أنّه من المعيب أن يصدر مثل هذا الكلام. ودافع عن نفسه قائلاً إنه يبحث في التاريخ، وفي المقولات التاريخية التي أسّست للأيديولوجيا. وأهم ما أشار إليه أركون هو ما أُنجز في فرنسا، تحت إشرافه مباشرة، من عمل بحثي تاريخي، تناول تاريخ الإسلام في فرنسا، وعلاقة الفرنسيين به في عمل ضخم قارب ألف صفحة.
وعلى الرغم مما يمتلكه محمد أركون من مقدرة على البحث والتحقيق العلميين، فإنّ محاضرته لم تأت بجديد. فقراءة لكتابيه «نزعة الأنسنة في الفكر العربي» و«معارك من أجل الأنسنة» تغني عن كل ما قاله خلال المحاضرة. وعلى رغم مرور فترة طويلة على كتابيه، وتتالي أحداث عالمية مفصلية غيرت كثيراً من المفاهيم، فإن أركون لم يأخذ هذا السياق التاريخي التالي في حديثه وفضل الذهاب إلى القرون السالفة.
النحت والفن التشكيلي كان لهما نصيب في المهرجان. إذ نُظّم «سمبوزيوم البحرين الدولي الثالث للنحت»، وأقيمت معارض فنية لتشكيليين محليين وأجانب من بينهم جعفر العربي وخالد الفرحان، إبراهيم بو سعد، السعودية شادية عالم، والخطاطة الإيرانية جلنار فتحي التي تأجل معرضها مراراً بسبب تأخر السلطات البحرينية في منحها تأشيرة دخول لأسباب أمنية حسب الادعاءات الرسميّة. المهرجان الذي استنفد أكثر فعالياته، احتضن أمس أمسية شعرية لصلاح ستيتية ومعرضاً تشكيلياً للفنان جبر علوان ويختتم بعرض موسيقي لفرقة «برازيل برازيليو».