سعد هادي
في كتابه «الخوذة والعمامة» («دار الفرقد» ــ دمشق)، يقرأ فاضل الربيعي الاحتلال الأميركي بصفته إعادة انتاج لصراع قديم: من جهة جنود الاحتلال ومن الاخرى مرجعيات دينية تنتشي على أنقاض الدولة المركزية

ذات يوم من ربيع عام 1917، ظهر الجنود البريطانيون على ضفاف دجلة وهم يرتدون خوذاتهم الحربية، استعداداً لاقتحام أبواب عاصمة الخلافة... فيما ظهر على الضفة الأخرى جيش جرار من رجال الدين. وكما في الأمس البعيد، كذلك في زمننا، لقد تكرر المشهد ربيع عام 2003، كما يلاحظ فاضل الربيعي في كتابه “الخوذة والعمامة”، الصادر عن “دار الفرقد” الدمشقيّة. إذ ظهر الأميركيون على ضفة النهر عينه وهم يتحصّنون داخل ثلاث دبابات من نوع آبرامز (ابراهيم)، بينما احتشد على الضفة المقابلة جيش جرار من العمائم البيضاء والسوداء.
كان الاحتلال الأجنبي للعراق، في الغالب، سبباً مباشراً في تفجير نوع من السجال في دور رجال الدين ومواقفهم. وبدت الخوذة ــ من المنظور الرمزي ــ شكلاً متقن الهندسة ومعدلاً عن العمامة (عمامة رجل الدين المسلم أو قلنسوة الراهب المسيحي). وبفضل هذا التعديل، غدت معادلاً دلالياً لها، مشحوناً بإشارات غامضة وجديدة. وعلى الرغم من كل التناقض الشكلي بينهما، تعبّر الخوذة والعمامة عن السلطة نفسها: أي القوة.

  • أدوار الأبطال القدامى

    يرى الربيعي ان تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي يتسم على نحو فريد بوجود نمط من التكرار والتعاقب والتماثل في الأحداث والمواقف، قد تصعب أو تستحيل مشاهدة ما يماثله في تواريخ أخرى. يحتشد الآباء والأبناء والأحفاد في لحظة واحدة من لحظات التاريخ ليزدحم المشهد من جديد ويعاد إنتاج اللحظة نفسها، ويمثلون أدوار الأبطال القدامى.
    لقد وجد العراقيون أنفسهم في التاسع من نيسان 2003، كما لو أنهم عادوا القهقرى إلى عام 1920. وفجأة ظهر على المسرح التاريخي أحفاد رجال دين وشيوخ قبائل ورجال سياسة ومثقفون... ليلعبوا أدوار أسلافهم، أو ليتصرفوا على النحو عينه الذي انتهجه أولئك الأسلاف. في الماضي كما في الحاضر، كان هناك التناقض نفسه بين الخوذة والعمامة. وكان هناك تحالف وثيق، جمع بين الرمزيات المتصارعة. لذلك، تبدو رؤية الاحتلال الاميركي للعراق من منظور موقف المرجعيات الدينية (الشيعية في شكل خاص)، ذا أهمية خاصة. فهذا المنظور يمتلك قدرة تعبير قويّة عن آراء الكتل السكانية والثقافات المحلية، ومختلف ردود الأفعال وحتى الحساسيات العرقية، وخصوصاً أنّ الاحتلال الاميركي أدخل المجتمع العراقي برمته في نمط جديد ومتشابك من العلاقات الداخلية، قد لا يكون مألوفاً لشدة تناقضاته وموضوعاته الصراعية. وأدى الاحتلال إلى انهيار العقد الاجتماعي القديم الذي قام عليه المجتمع العراقي التقليدي. ومع العقد الاجتماعي شهدنا انهيار منظومة القيم، وتفكك الروابط والأسس التي قام عليها التعايش التاريخي بين الطبقات والثقافات، إضافة الى محو الدولة الوطنية كإطار منظم للعلاقات الداخلية.
    ويعتبر الربيعي أنّ الأمر لم يتوقّف على تحطيم أجهزة الدولة الرقابية، وأنماط سيطرتها وأدواتها... بل يذهب إلى أنّ التفكك والتداعي تجاوزا كل ذلك الى إحداث تخلخل بنيوي، واسع النطاق، شمل الأسس الأولية المتعارف عليها في التعايش التاريخي بين الطوائف والمذاهب والجماعات والإثنيات والثقافات المحلية.

  • مرجعيات جديدة

    من جانب آخر، كان محو السلطة المركزية يؤدي في كل لحظة إلى نشر الفوضى، لكن أيضاً الى ازدياد ميول الأفراد والجماعات الى الإفلات من أي نمط من أنماط رقابة الدولة. وبموزاة ذلك، قامت مرجعيات سياسية وثقافية جديدة، تتحرق الى إعادة تعريف أدوارها، وأدوار القوى الاجتماعية المعبرة عنها أو المرتبطة بها. أرادت هذه المرجعيات الجديدة أن تأخذ بيدها مسألة حسم التناقضات الداخلية، مبكراً وبوسائل عنيفة غير مسبوقة، وذلك خارج أي نوع من أنواع الرقابة بما فيها رقابة المجتمع. هكذا أصبحت عمليات القتل والتصفيات الجسدية نوعاً من تصفيات الحساب الجنونية، وربما العبثية.
    لقد استفاق المجتمع العراقي على حقيقة مفزعة، هي أن الاحتلال ليس استيلاء على الأرض والثروات تقوم به قوة قادمة من خارج البلاد فحسب، بل هو عملية مركّبة، متعددة الأبعاد، تؤدي الى اختلال بنيوي في التوازنات والتوافقات السابقة داخل المجتمع... وتفضي إلى نمط من الزعزعة العنيفة لأسس التعايش التاريخي بين الأفراد والجماعات. وقد وجد التبدل المتسارع تعبيره السياسي في صعود موجة جماهيرية جديدة هائلة، راحت تقدم نفسها كمالكة لعقيدة خلاصية مجربة: الإسلام في قراءته الشيعية. وهذا ما أثار مشاعر الخوف والقلق لدى المذاهب والطوائف الأخرى، ولدى الجماعات غير المسيّسة، والأقليات الدينية الصغيرة... التي لم تكن تعبأ في السابق بأي مشاعر من هذا النوع مع وجود الدولة المركزية.
    وما ضاعف مشاعر القلق هذه، أن النزعة الجماهيرية الجديدة الصاعدة التي حلّ فيها الإسلام مكان القومية العربية، هي “جماهيرية” ممزقة من حيث تنوّع، وربما تناقض، مرجعياتها السياسية والدينية... إضافة الى مستوى التنافس بين قادتها. وتلك التناقضات ذات صلة عضوية بالثقافة الراسبة والتاريخ المحلي، وبالتنافس التقليدي بين الحوزة والحزب الديني. وتأتي محاولة الربيعي ــ كما يقول ــ لرسم إطار تاريخي يبيّن نوعية (وطبيعة) المواجهة التي دارت فوق المسرح التاريخي، بين الخوذة والعمامة من جهة... وبين رجال الدين أنفسهم من جهة أخرى.