افتُتح قبل أيام معرض «ماذا تُقدِّم فلسطين للعالم» في «معهد العالم العربي» في باريس، حيث سيتمكّن الزوّار من استكشاف المحتوى الثمين لحقيبتَي الروائي والشاعر الفرنسي جان جينيه (1910-1986) المعروف بمناصرته للقضية الفلسطينية. وجينيه كاتب متمرّد بطبيعته، عانى من طفولة صعبة بعدما هجرته والدته، فانتقل من أسرة حاضنة إلى أخرى. واجه جينيه دائماً مشكلات عديدة مع السلطات بسبب احترافه اللّصوصية، وأُرسل إلى دار لإعادة التأهيل خلال فترة مراهقته، وأمضى جزءاً كبيراً من شبابه متسكِّعاً في الأزقة المظلمة، أو ضيفاً دائماً في الزنازين الفرنسية والأوروبيّة، حيث استهلّ مهنته ككاتب، وألَّف روايته الأولى «سيّدة الزهور» التي تستكشف عالم المومسات واللصوص والمجرمين، وتعطي صوتاً للمستبعدين والمهمّشين من المجتمع. لكن الحياة ما لبثت أن ابتسمت للكاتب المنبوذ، فقرأ الفيلسوف الشهير سارتر كتابه «يوميّات لص»، واعتبره من أعظم الكتب في تاريخ الأدب، حتى إنه ألّف كتاباً عن جينيه حمل عنوان «القدّيس جينيه ممثل هزلي وشهيد». وهكذا، أصبح جينيه من المشاهير في فرنسا بعدما كان معروفاً بأنّه كاتب «داعر» ولص. لكن جينيه لم يبرع فقط في الرواية، بل برَزَ أيضاً بمسرحه التجريبي الذي يُناقش مسائل الهويّة والسّلطة وتجاوز القيم الاجتماعيّة. وتميّزت مسرحياته «الخادمتان» (1947) و«الشرفة» (1956) و«الزنوج» (1959) بأنها سابقة لأوانها، قدّمت نقداً لاذعاً لمجتمع القرن العشرين.
في الرباط عام 1985 (مارك تريفييه)

لكن ما هي قصّة حقائب جان جينيه؟ في السّتينيات من القرن الماضي، بعد انتحار uadri لاعب السيرك عبدالله بنتاجا، وبعد الضجَّة الكبيرة التي أثارتها مسرحيّته «السواتر» (1966) المناهضة للاستعمار الفرنسي للجزائر، وتعرّض طاقم العمل لهجوم عنيف من قبل اليمين الفرنسيّ المتطرف، قرّر جان جينيه التوقف عن نشر أعماله، لكنّه استمر في الكتابة. كان يحتفظ بكل مُدوّناته وملاحظاته في حقيبتين: واحدة من الجلد الأسود والأخرى من الجلد الاصطناعي البنيّ. وكان يُفترض أن تُعرض الحقيبتان في معرض قرب مدينة Caen الفرنسية عام 2020، لكن المعرض توقف بسبب جائحة كوفيد -19 التي دفعت الحكومة الفرنسيّة حينها لإغلاق جميع المراكز الثقافيّة لمدة ستّة أشهر. وجدت الحقيبتان أخيراً مكانهما الطبيعي في «معهد العالم العربي» في باريس في إطار سلسلة من المعارض والحفلات الموسيقيّة والأفلام واللقاءات بعنوان «ماذا تُقدِّم فلسطين للعالم» تستمر حتى 19 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
تُعتبر هاتان الحقيبتان رمزاً لكاتب متشرد لم يكن لديه مأوى ثابت طوال حياته، وتشهد الرَّسائل المُوجَّهة إليه من «دار غاليمار» وفواتير الفنادق العديدة على ترحاله الدائم. تحتوي الحقيبتان على ملاحظات، ومسوّدات لكتبه، ورسومات وقُصاصات من الصحف، وعلى آثار رفقته الطويلة للشعب الفلسطيني والفدائيين الفلسطينيين، كما على سيناريو فيلم بعنوان Divine مُستوحى من روايته «سيّدة الزهور»، وقد كتبه جينيه بناءً على طلب المغني ديفيد بوي الذي أراد تجسيد دور البطل، لكن المشروع لم يبصر النور للأسف.
وكانت قصّة حبّ صادقة وقوية قد نشأت بين الكاتب المعروف والشعب الفلسطيني عام 1970، حين زار الأردن بعدما استحصل من ياسر عرفات على إذن مرور خاص. كان يعتقد أنّه سيبقى هناك ثمانية أيّام فقط، لكنه قضى سنتين كاملتين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيّين، وأصبح اسمه الحركي «الملازم علي»، وقد أُعجب جينيه بالفدائيين، وبعنفوان النساء الفلسطينيات.

من المعرض

وبعد هذه الزيارة الطويلة، أصبح الشعب الفلسطيني في مُقدمة اهتمامات الكاتب. شعر نحو الفلسطينيين برابط عاطفيّ حقيقيّ، ووجد ذاته بين أبناء هذا الشعب الذي فقد أرضه، بخاصّة أنه هو شخصيّاً عانى من التّشرُّد ومن السّجن. كتب جينيه مقالات عدة وأجرى مقابلات صحافية عبَّر فيها عن دعمه للمقاومة الفلسطينيّة ودافع عن حق الشّعب الفلسطيني في تقرير المصير. وفي عام 1982، شاءت المصادفات أن يكون جينيه في بيروت برفقة الديبلوماسيّة الفلسطينيّة ليلى شهيد، حين وقعت مذبحة صبرا وشاتيلا الفظيعة، فزار جينيه مخيم شاتيلا بعد ساعات قليلة على وقوع الكارثة، ليتحول إلى شاهد تاريخي على هول المجزرة.
في الأردن، أصبح اسمه الحركي «الملازم علي»

انعزل جينيه المصدوم بضعة أيام كتب خلالها مخطوطته الشهيرة «أربع ساعات في شاتيلا» (1982) التي وصف فيها بشكل مؤثّر المجازر المُروّعة التي ارتكبتها ميليشيات اليمين المسيحي المتطرف المدعومة من إسرائيل، وحكى عن مشاعر الصدمة والذّهول التي أحسّ بها وهو يسير بين البقايا المُدّمرة للمخيَّم، ووصف الأجساد المشوّهة بفعل التعذيب والمبتورة الأعضاء والجثث المتناثرة في أرجاء المكان، وقد بقيت مشاهد العنف الدمويّة هذه راسخة في ذاكرته حتى لحظة وفاته. أفرغ جينيه على صفحات كتابه غضبه ضد الاحتلال الصهيوني، وعبّر عن مشاعر الثورة التي اعتملت في صدره تجاه هذه الجريمة الكبرى ضد الإنسانيّة. كما تحدث عن مسؤولية المجتمع الدولي وصَمته عن المجزرة الذي يرقى إلى مستوى المؤامرة. يعتبر الكتاب اليوم من أكثر كتبه السّياسيّة التزاماً بالدفاع عن المقاومة والعدالة والحريّة. وقد حظِيَ بترحيب كبير نظراً إلى قيمته الأدبيّة العاليّة، ولقدرته على إثارة تعاطف القراء وتوعيتهم حول الظلم الذي يعانيه الشعب الفلسطيني.

زار جينيه مخيم شاتيلا بعد ساعات قليلة على وقوع الكارثة، ليتحول إلى شاهد تاريخي على هول المجزرة


وقبل نحو أسبوعين من وفاته، سلّم جينيه الذي كان يصارع السّرطان، حقيبتيه لمحاميه رولان دوما الذي احتفظ بهما لمدة 43 عاماً. كان آخر أعمال جينيه كتاب يجمع بين الرواية والسيرة الذاتية عن القضيّة الفلسطينيّة بعنوان «أسير عاشق». أراد من خلال هذا الكتاب، إعادة إحياء صورة الفدائي الفلسطيني بعدما شعر بأنّ القضيّة الفلسطينيّة بدأت تنحرف عن مسارها الثوري، = نحو أولويّة إنشاء دولة على جزء من أرض فلسطين. وقال عن الكتاب في إحدى المقابلات: «عندما كتبت «أسير عاشق»، كان العديد من الرّجال الذين عرفتهم في المعسكرات قد قُتلوا، وكنت أنا أحتضر بسبب المرض. أردتُ من خلال الكتاب أن أكتب وصفاً جميلاً لتلك اللحظة ولأولئك الرجال، وأن أعيد تأكيد التِزامي، بعد عشر سنوات، ليس فقط للثورة الفلسطينيّة ولكن للتمرّد عموماً».
رحل الكاتب المشاكس عن عالمنا في 15 نيسان (أبريل) 1986 في باريس، ووُري جثمانه الثرى في مدينة العرائش في المغرب وفقاً لوصيّته، لكنّ إرثه الأدبي بقي ليُلهم جميع المناضلين حول العالم. ولا شك في أنّ حياته الصّاخبة ودفاعه عن المُهمّشين في المجتمع، وعشقه الكبير لفلسطين وتأييده لحركات التّحرّر حول العالم، قد جعلت منه أحد أبرز الوجوه الأدبيّة والنضالية في القرن العشرين.

* «حقيبتا جان جينيه»: حتى 19 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ «معهد العالم العربي» في باريس ـــ imarabe.org