كان الراحل أمبرتو إيكو قد حذّر باكراً من طغيان فيالق الحمقى في اقتحام الفضاء العام للسوشال ميديا، لكن هؤلاء باتوا أكثر ضراوة في عملية تكسير الركب، فهم لم يعودوا ضيوفاً عابرين، إنما احتلوا صدر البيت، وحدّدوا أصناف الطعام والوجبات ونوع الحلوى. هناك ما يشبه جيلاً جديداً من اللافقاريات ينمو في مستنقعات الكتابة! سلالة من الدهماء زحفت في وضح النهار إلى الواجهة للتشويش على البثّ الأصلي، وصنع مانشيتات اللحظة وفقاً لذائقة تقع في أسفل السلّم لا أعلاه. لا يتردد بعض هؤلاء في رسم خرائط الثقافة بإعلاء شأن «ميديكور» هزيل، بدرجة عالية من فقر الدم والموهبة والسماجة، وبالطبع، الضرب من تحت الحزام، بشجاعة الجهل وحدها، لمنجز شخصيات ثقافية معتبرة، فالتاريخ الشخصي هنا يعمل بدرجة الصفر لا أكثر، فهو بلا قيمة، طالما أن هذا الكائن لم يصطدم به قبلاً، لكنه في الوقت نفسه لا يتوانى عن استدراج عبارة من نيتشه أو هايدغر أو ابن عربي أو المعرّي، والزج بها في منشوره لتحسين التربة المالحة والسبخ الذي يغرق فيه إلى الركبتين. يرسمون بعشوائية تضاريس السياسة والأدب والفنون وأسعار البورصة ويوزعون «الشوباش» لفيلم سينمائي، أو مسلسل تلفزيوني، أو ممثلة بلهاء، أو زعيم قبيلة، ويقصون أعمالاً نوعية بجرّة «كيبورد» واحدة، فهم أيضاً، أباطرة الحائط الأزرق المدهون بزبدة الليل قبل أن تذوب في نهار اليوم التالي. طواويس لليلة واحدة، يفردون أجنحتهم المستعارة بخيلاء، ثم يستعدون لحربٍ أخرى كخبراء استراتيجيين في ملاعب كرة القدم، والحداثة، والعولمة، والطوائف، وكمية المقادير المطلوبة لصناعة مخلل الباذنجان الأدبي. يصعب تأطير هذه التفاهة سوسيولوجياً لفرط اتساعها وتشظيها، فهي لم تعد هامشية أو عابرة، إنما باتت بأنياب حادة، وحراشف تحميها من الزوال. لحظة نيوليبرالية متوحّشة بخمائر أخطبوطية مركّزة، تمتد من طاهي الكبّة الشامية إلى «الفاشنستا» في فنون العري والإغواء، ومن إعلانات «المسّاجات» في مراكز التدليك المشبوهة، إلى مجاري الصرف الصحي لشعراء وشاعرات الرغوة. وإذا بـ «بُلهاء» بريد القراء يتحوّلون إلى صنّاع محتوى، يجرّون وراءهم قطيعاً من «الفانز». سنزيح هؤلاء جانباً، ونلتفت إلى صحافيين ونقّاد طارئين يتصيدون مواضيع تناسب هذه المنصة أو تلك بمزاج لاعب خفة، يُخرج الأرانب من جيبه بحركتين أو ثلاث. ليبرالي هنا، وماركسي شرس هناك، وطائفي في الليل، وملحد في الظهيرة. يدافع ثقافياً عن فوائد البابونج، وعن مضار القهوة، وهلاك الكوكب، والذكاء الاصطناعي، ونجوى فؤاد، غير عابئ بركاكة صوغ الجمل، وأخطاء النحو والصرف، وعلامات الترقيم. سيعالج مئوية فرانز كافكا مثلاً، كما لو أنه قصّاب أمام ذبيحة، يعزل اللحم عن العظم بمهارة، سيستل أسلحته من موقع غوغل ويفرشها أمامه كسكاكين مشحوذة. فهو عملياً، بالكاد سمع بهذا الكاتب، قبل أن تداهمه المناسبة، أو أنه لم يقرأ كتاباً واحداً من كتبه، وبعد غوغلة عاجلة، سنكتشف أنه هو من أهداه فكرة تحويل «غريغوري سامسا» إلى حشرة ضخمة، كما أنه كان شاهداً على وصية صاحب «المسخ» بإحراق مخطوطاته، وهو من وضع زهوراً إلى جانب سريره أثناء احتضاره، ولطالما عبرا معاً جسور براغ في أحاديث لا تُنسى. ولن ينسى أن يزج كلمة «كابوسية» هنا وهناك لزوم التخصّص. الكائن الذي كان يظن أن أمل دنقل شاعرة وليس شاعراً، كاد أن يقع في حفرة لولا أنه اكتشف في اللحظة الأخيرة بأن صاحب «لا تصالح» شاعر ملهم وأنّ «دون كيخوته» عنوان رواية لسرفانتس وليس مؤلفاً من القرن الثامن عشر، وأن عبارة «كان دون كيخوته يحارب طواحين الهواء» لا تكفي لتلخيص هذه الرواية العظيمة.
يرسمون بعشوائية تضاريس السياسة والأدب والفنون ويوزعون «الشوباش» لفيلم أو مسلسل

الآن نكتشف أن طفيليّي أمس الذين كانوا يسلّكون أمورهم في مقاهي المثقفين على أطراف الموائد، بحفظ النبذة المكتوبة على الغلاف الأخير لهذا الكتاب أو ذاك، هم عباقرة بالمقارنة مع صيصان اليوم في المداجن الجماعية. نقرأ مقالات لصحافيين عابرين يتتبعون روزنامة الأحداث الثقافية لالتقاط مناسبة ما، فيدبجون مواد عمّا لا يعرفونه عن طريق القص واللصق، من دون أن يرفّ لهم جفن. ستجد من دون عناء أقوال وشذرات من سيوران، وجلال الدين الرومي، وشكسبير وسواهم من الأسماء الرنّانة، مبثوثة في (المتن؟)، بقصد تحسين النكهة، وتغليف البلاستيك بما ليس فيه، ههنا سوق هال تختلط فيه الطماطم مع البطاطا والبصل، فالمهم إعداد وجبة سخية من بقايا الطعام وتقديمها للمنصات التي تدفع جيداً، وما عدا ذلك ليس مهماً.
هناك إذاً، رائحة عفونة، تتسلّل من مطابخ هؤلاء الطهاة كمحصّلة لأخطاء فادحة في وضع المقادير من جهةٍ، وارتفاع منسوب الحماقة من جهةٍ ثانية، كمن يزوّد جملاً يعبر الصحراء برادار إلكتروني لاستكشاف ثقل موروث الأسلاف، ثمّ ماذا يعني أن تستعمل الكيبورد، وتوقّع ما تكتب بكلمة «بقلم»! كنتُ اكتشفتُ باكراً معنى العولمة، وفوضى الكوكب، في زيارة إلى قريتي الصحراوية، إذ كانت أمي تخضّ اللبن بالغسالة الكهربائية بدلاً من «الشكوة». أظنّ أن طعم الزبدة لم يعد هو نفسه. فتّش إذاً، عن المذاق.