كانت الأجواء ساحرة، مساء الأحد، في باحة «معهد فيلوكاليا» في عينطورة، ممهورة بالدهشة وتوق الذوّاقة التاريخي، قبيل الأمسية وبعدها، إلى إعادة سماع «جدل» مارسيل خليفة في أداءٍ حيّ. كعادتها، اهتمّت الأخت الموسيقية مارانا سعد بتفاصيل الحفلة مسبقاً وقدّمتها بكلمة ترحيب بالحضور. كان الجمهور في حالٍ من التماهي والنشوة، يرهف السمع إلى «راهب العود» في حواره الجدليّ مع عود شربل روحانا. شفَّت الحفلة عن نضوج التجربة الطليعية واختمارها، مع صون الطزاجة الإبداعية الكامنة في النصّ الموسيقي المدوَّن لمؤلّفه مارسيل، ويمكن اعتباره صاحب مدرسة لبنانية وعربية في العود، في موازاة المدارس المصرية والشامية والعراقية. علماً أنّ خليفة كتب أيضاً منهجاً للآلة و«ديوان العود» الذي لم يصدر بعد المخصَّص لعشاق العود والملمّين بالعزف المنوَّط. وسَّع خليفة في «جدل» مروحة إمكانات العزف على الآلة تقنياً في الكتابة المغايرة لها، من دون أن يطغى الجانب التقني على الإبداعي والإحساس الرفيع. هكذا تمظهرت البراعة التأليفية في نواة الرؤية الموسيقية السديدة.
«جدل» تحدٍّ للذات والأوتار ورشاقة الأصابع وقدراتها، ولروح التأليف العربي، لإثبات ملاعب العود الإضافية الرحبة ودوره غير المقتصر على مرافقة الغناء والتقاسيم الارتجالية. دوَّن مارسيل تقاسيمه عمداً في «جدل» وأفرد هامشاً للارتجال فتبدَّتْ شخصية الآلة العصرية واستقلاليتها في كتابة مؤسلَبة لها تشتمل على الكثير من الجماليات وتبقى للتاريخ نموذجاً ومثالاً، وحافظ على خصوصياتها وخصوصيات الموسيقى العربية بالتوازي مع نسجه الخطوط التناغمية المتقنة والحداثية في خلطة تجديدية رائدة جدلياً منذ التسعينيات. اتّهمه بعضهم وقتذاك باقتراف قطيعة مع مشروعه الغنائي، وهذا غير صحيح بدليل استمراره في الغناء، علماً أنه يتهيّأ حالياً لإطلاق «جدارية» محمود درويش التي انكبّ منذ زمن على مَوْسقتها، وأنّ الخط الغنائي والتأليف الآليّ غير متعارضين، بل يتوازيان ويتقاطعان ويكمل أحدهما الآخر في مسيرة مارسيل الحرّة والمتحرّرة مما لا يفيدها أو يغنيها في التقدّم والتطوّر على مستوى الرؤية الفنية التي يجترحها أو يرتئيها.
«جدل» لا يعكس نوستالجيا ضمنية إلى التسعينيات فحسب، بل ينظر إليه الدارسون بوصفه مرجعاً للكتابة المتقنة النوعية للعود. يمكن اعتبار «جدل» ثورة ناعمة جداً في التأليف لآلة مشرقية عربية تستحق رعاية فضلى، انطلاقاً من ولع صاحب «كونشرتو الأندلس» بالعود، وحرصه على مكنوناته وأمدائه، وعلى خصائص الموسيقى العربية التي لا تُمَسّ. لم ينزلق بذلك إلى مطب التغريب، محافظاً على المقامات والأصالة العربية وهوية الآلة رغم استعانته بأدوات وآليات موسيقية غربية جلية. يبرز التراث المعصرن في العمل في محطّاتٍ مثل «البنت الشلبية» و«يا بنات اسكندرية» و«قدّك المياس يا عمري» أو «يا ليل الصبّ متى غده»...
نجح خليفة في تظهير حوار العود العربي الذي ينهل أيضاً من قنوات وروافد علمية غربية في تآلفات الكتابة الموسيقية، وهذا حقٌّ مشروع لأنّ الموسيقى لغة عالمية وللمبدع حقّ التصرّف بملء الإرادة. في ختام الحفلة، غنّى مارسيل «ريتا» (شعر محمود درويش) وكان الجمهور كَوْرَسه.
«جدل» عملٌ موسيقي خالد وحفْرٌ في غير المتحقّق حتى التسعينيات بتلك الجودة العليا في أفلاك العود.