«شدّي عليكِ الجرح وانتصبي/ عبر الدجى رمحاً من اللهبِ/ يا ساحة الأنواء كَمْ عصفَت/ فيها خيول الهول والرعبِ/ فالأرض فيها وجه مذبحةٍ/ والجوّ أمطار من الشهبِ/ لم يبق غصنٌ غير منتهبِ/ لم يبقَ وجهٌ غير مستلبِ/ أهلوك لا سورٌ من الكذبِ/ أهلوك لا قنّاصة الرتبِ/ صدّوا الرياح السودَ يحفزهم/ جُرح التراب وأنّة العشبِ /شغّيلة من أرض عاملة أكرِمْ بهم من عاطر النسَبِ /من صخرها/ قدّوا أعنّتهم واسترشدوا بالكوكب الذهبي»: كان الشاعر والمفكّر حبيب صادق (1931-2023) مجبولاً طبعاً ولكنةً وتكويناً وثقافةً بالأرض العاملية، في انفتاح سهولها على الضوء والحرية، واستعصاء جبالها على الرياح والغزاة والمحتلّين، وليونة ودماثة أخلاق أهلها واجتراحهم الشعر والأغاني من قلب الجرح النازف في ترابهم وفلسطين التي تبعد عنه خطوتين: هو الولد التاسع عشر للمرجع الديني المشهور فقهاً وشعراً وزعامةً الشيخ عبد الحسين صادق من زوجته الثالثة، إذ كان أبوه يبلغ 73 عاماً عند ولادته. أبصر النور في الخيام في أقاصي الجنوب اللبناني في بيت طافح بالشعر والأولاد الذين لم تسمح كثرتهم ومشاغل أبيهم المتعددة بأن يولِيَهم كثير عناية، وهو ما دفع حبيب صادق إلى الاعتراف في ما بعد في حواره الطويل مع طانيوس دعيبس («حوار الأيام») بأنّ الأب كان مجرد صورة على الحائط فحسب، وأنه كان «ابن أمّه» فقط التي كانت تحنو عليه حنوّ الطيور على فراخها. انغماس حبيب الفتى في جوّ البيئة الجنوبية التي تفيض فقهاً وشعراً جعله أشبه بطائر يطير بجناحين متناقضين: حرارة دينية مستمدة من الشجن الكربلائي المجبول بالمواويل العاملية، وقصائد أولى ملتصقة بالأرض وتضاريسها ومياهها المنسالة بركاً وقمحاً على سهل الخيام، وجناح آخر تغذّيه الرغبة الفرويدية في قتل الأب معنويّاً والوعي الطبقي بالعمّال و«الشغّيلة» والفلاحين الذين كانت تحاصرهم مطرقة الإقطاع والهجرة إلى مدينة الذل والقهر والحرمان، وسندان الاحتلال الذي يمعن فتكاً بلحمهم العاري وبيوتهم وأرزاقهم.

من قلب هذه الثنائية، بدأت شخصية اليساري المقاتل تتشكّل. وجد صادق نفسه أقرب إلى الحلم الاشتراكي بالعدالة والمساواة والسعي لتحسين شروط حياة الفئات المحرومة والمهمّشة، وانضم تلقائيّاً إلى تلك المجموعة المتمرّدة من أبناء المراجع ورجال الدين التي بترت مع التقاليد والموروثات واستهوتها أفكار الأممية والشيوعية واليسار، وانقلبوا من «شيعة» إلى «شيوعيين»: تشابك في حبيب صادق العمل السياسي بالثقافي، فبين ترشحه للانتخابات النيابية منفرداً سنتَي 1968 (نال 265 صوتاً) و1972 (نال 13028) بدعم من كمال جنبلاط والحزب الشيوعي اللبناني في مواجهة اللائحة الأسعدية، أسهم سنة 1964 في تأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي صار رئيسه منذ عام 1972، وتتلخّص أبرز أهدافه في تعزيز الحركة الثقافية في لبنان عامةً والجنوب خاصة، ودعم النتاج الثقافي في مختلف الحقول، ولمّ شمل المثقّفين ولا سيما الشباب والتشجيع على النشر والمحافظة على التراث الفكري وبالأخصّ الجنوبي، والإسهام في الدفاع عن حرية الوطن وسيادته وعن حقوق الإنسان وسلامة البيئة. كان يعتبر العمل الثقافي جزءاً لا يتجزّأ من «المعركة الضارية التي يخوض غمارها أهلنا في الجنوب ولا يقتصر القتال فيها على جبهة واحدة، بل يتجاوزها إلى جبهات عدّة قد تكون الجبهة الثقافية والأيديولوجية واحدةً من أهمّ تلك الجبهات وأخطرها. وإذ نعلم أن الصهيونية تعتمد الثقافة سلاحاً من أمضى الأسلحة التي تقارعنا بها في ساحة الصراع القائم، تتأكد لدينا وجاهة الدعوة، بل قل ضرورتها، إلى تحصين جبهتنا الثقافية في مواجهة الغزو الثقافي الصهيوني». اعتنى «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» بحفظ التراث العاملي وحمايته من الاندثار والضياع، فأشرف صادق شخصياً على طباعة آثار الأديبة الراحلة زينب فواز بكتاب جمَع مؤلّفيها الرائدين «حُسن العواقب» (رواية) و«الهوى والوفاء» (مسرحية)، وسلسلتين مميزتين، حملت الأولى عنوان «وجوه ثقافية من الجنوب» تناولت سيرة ونتاج كوكبة من الوجوه الفكرية والثقافية العاملية أمثال زينب فواز ومحمد علي الحوماني وعارف الحرّ وأحمد رضا ومحمد جابر آل صفا وعبد المطّلب الأمين وفؤاد جرداق الذي كتب صادق الفصل الخاص به بنفسه، أما الثانية فحملت عنوان «من دفتر الذكريات الجنوبية» (1984) واستكملت طيف الشخصيات الجنوبية أمثال السيد حسن الأمين، والصحافي ألفرد أبو سمرا، والمؤرخ الشيخ علي الزين والعلّامة حسن الأمين وغيرهم. أعاد صادق جمع تراث والده الشعري ليصدر في ديوانين بعنوان «عرف الولاء» و«سقط المتاع». كما نشر مجموعة قيّمة من المخطوطات والآثار ضمن سلسلة حملت عنوان «تراث عاملي» ضمّت كتاب «طرفة الطرائف وزبدة المعارف» للعلّامة الشيخ أحمد رضا، و«سوق المعادن» للشيخ محمد علي عز الدين وغيرهما من «آثار هذا التراث المجهولة المصير، نظراً لما اختلف على الجبل العاملي من محن كارثية ونكبات دامية لعلّ أشدّها ضراوةً وأفدحها ضرراً إبّان الحكم العثماني التسلّطي، تلك الغزوة البربرية التي شنّها عليه الجزّار أحمد باشا بجحافل القتَلة والهدّامين».
عمل على توثيق التراث العاملي وحفظه من الاندثار


واكب حبيب صادق في «المجلس الثقافي...» الحركة الشعرية والثقافية على امتداد نصف قرن، إذ احتضن المنبر حركة «شعراء الجنوب» التي صدحت أصوات شعرائها أمثال محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع ومحمد عبد الله والياس لحود وحسن عبد الله وجودت فخر الدين وغيرهم على منبره، كما رافق المقاومة الوطنية الباسلة بمجموعة من الملصقات والمنشورات والمعارض التي تشيد ببطولة أهل الجنوب والبقاع وراشيا في صدّ العنوان، ناهيك بفتح المجلس أبوابه لمئات الندوات والمعارض والأنشطة التي تطال الحياة الثقافية كافة. في الجانب السياسي، يصحّ في حبيب صادق ما وصفه به الشاعر الراحل محمد علي شمس الدين: «الجانب الحالم السرفانتسي السعيد بأحلامه، والمستيقظ بين صحوة وصحوة على الخدعة... وجانب المتشبث بالحلم اليساري ولو كان خادعاً لأنه لا يمتلك سواه»: بعد مهادنة مع السلطة أوصلته إلى المجلس النيابي عام 1992، عرف حبيب صادق أنه لا يمكن أن يكون عضواً في «النادي» الذي يضمّ بين ظهرانيه مافيا الفساد والطائفية، فكان أن تحدّى السلطة ذاتها في انتخابات 1996 من دون أن يكتب له حظ بالنجاح، ليتفرّغ بعدها للعمل الفكري والثقافي، ويعتزل العمل السياسي منذ عام 2005، ويهتم بمؤلفاته التي شرّح فيها قضايا الاحتلال والمقاومة والنضال واليسار وأزمات الأحزاب الشيوعية المنبثقة من التناقض بين نقاء النظرية وطوباويتها، وتعقيدات الواقع والتباسه، لتنضمّ كتبه مثل «وحدة القلوب» و«حوار الأيام» و«في وادي الوطن» إلى نظيراتها المكتوبة في زمان أسبق مثل «فصول لم تتمّ» و«شهادات على حاشية الجنوب» و«وجوه مضيئة في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع». لم تسرق السياسة صاحب «في زمن القهر والغضب» من الشعر، ولم يطفئ المرض (أصيب صادق بمرض اللوكيميا لعشر سنوات) أو يرهق الزواج المقتضَب (تزوّج بالكاتبة ديزي الأمير لفترة وجيزة 1973-1975) تلك الروح الحساسة المرهفة، إذ ظلّت تلك الجذوة التي عرفناها في «زمن القهر والغضب» و«جنوباً ترحل الكلمات» متّقدة حتى الرمق الأخير: «من قبل حلول اللعنه/ في الفجر أتاها الموت اشتعلت مسكبة التبغِ/ تهاوت حنجرة العصفور.../ النار حدود منازلنا/ النارُ، الأرض، السقف، السورْ/ كل الطرقات تؤدّي إلى «حولا»/ «حولا» جسدي قلبي المسكين/ في الليل تشتدّ الريح على «حولا»/ يشتدّ المطر المالحْ/ ينأى الوطن الوالدْ/ في الليل يفرّ الوطن الوالدْ/ يتوارى العلم الشاهدْ/ لا يبقى إلا «حولا» والجلّاد». مات حبيب صادق، لكن الأرض الجنوبية ستستكمل نضالها لا محالة لتنفض عنها «قنّاصة الرُّتب» وتستكمل تحرير الأرض بتحرير الإنسان.