تعود بدايات الفنان الإسباني ناتشو أريماني في عالم الموسيقى إلى حين كان طفلاً في السادسة من العمر، يتعلّم العزف على البيانو كما كان عضواً في جوقة إسبانية. وسرعان ما أصبح مغنياً منفرداً في إحدى الجوقات البارزة للأولاد في بلاده. وقف على مسارح مهمة في إسبانيا طوال سنوات، وأدّى مقطوعات من الريبيرتوار الكلاسيكي، كما تشارك المسرح ذات مرّة مع مونسيرات كباييه، إلى أن بلغ الـ 13 من العمر وبدأ يشعر بالكثير من الضغوط بسبب متطلّبات الموسيقى الكلاسيكية. لم تعد تشعره بالسعادة، وابتعد عنها لمدة سنتين. في حديث مع «الأخبار» بعد انتهائه من التمارين الأوّلية للحفلة، أخبرنا أريماني عن اللحظة المفصلية التي أعادته إلى عالم الموسيقى من باب مختلف هذه المرّة: «سافرت كثيراً عندما أصبحت في الـ 15 من العمر. ذات مرّة في باريس، سمعت إيقاعات درامز في الشارع، فتبعت الصوت ووصلت إلى «نوتردام» حيث كان بعض السنغاليين والفرنسيين والصينيين يعزفون إيقاعات من أفريقيا لم يسبق لي أن سمعتها. كان الجميع يلهو ولم أكن أدرك حتى تلك اللحظة أنّ الموسيقى قد تكون مرحة. كانت نقطة تحوّل في مسيرتي من الموسيقى التقليدية إلى الإيقاعات».
بدأ أريماني يؤلّف موسيقاه الخاصة في عام 2005

ويضيف: «بعد هذه الرحلة، بدأت أدرس الإيقاعات المتنوعة من العالم، وكانت أول دروسي في الإيقاعات الخاصة بالشرق الأوسط. وما سحرني هو مفعولها في الروح. تحمّست وأكملت دراستي الموسيقى الشرق أوسطية، ثم انتقلت إلى إيقاعات غرب أفريقيا. وبعد سنوات عدّة، بدأت أهتم بالفلامنكو، موسيقى بلدي. وجدت إيقاعات الفلامنكو معقّدة، فقرّرت أن أصبح راقص فلامنكو لسنتين كي أتمكن من الإحساس بالإيقاع وأفهم قواعد الفلامنكو، لأنّ هذا النوع من الفن يعتمد على نوع من الحوار والتواطؤ بين الراقص والمغني وعازف الغيتار وعازف الإيقاع. ثم احترفت العزف على الآلات الإيقاعية وبدأت أؤدي مع فرق إسبانية وفنانين معروفين أمثال خواكين كورتيس».
البدايات والدراسات تلك أدّت إلى تصوّره حفلةً تكون مبنية على كل هذه التأثيرات، ومتجذّرة خصوصاً في موسيقى الشرق الأوسط. عن موسيقى عرض «الجذور في أيدينا» المنتظر الليلة في بعلبك، يشرح: «هي عربية وفي الوقت عينه ليس فيها من تناقضات، لأنّ إسبانيا قبل 500 عام كانت عربية. الموسيقى طبيعية جداً عندما تمتزج الألحان من إسبانيا ولبنان مع الإيقاعات. فهي تملك الجذور نفسها في الأندلس. ما سنفعله هو فقط إعادة وضعها في إطار حديث، فهي موسيقى ولدت في الأندلس وظلّ عرب إسبانيا يؤدونها بعدما غادروها وتشتتوا في أنحاء العالم. أشعر بالخجل لأنّنا في إسبانيا ننسى إرثنا. الأمسية هي إعادة تسليط الضوء على هذا الإرث والمزيج بين الحضارتَيْن الإسبانية والعربية. وحتى دي فايا ورودريغو كانا يتنشّقان هذه الجذور. لذا ستكون الموسيقى الكلاسيكية الإسبانية أيضاً من ضمن برنامج السهرة».
بدأ أريماني يؤلّف موسيقاه الخاصة عام 2005. وبات زائراً دوماً للبنان منذ عام 2019. وكلّما أتى إلى هنا، كان يؤلّف بعض الموسيقى حتى بات لديه ريبيرتوار يؤدّيه مع مجموعته الموسيقية في لوس أنجليس، حيث يقيم. بطبيعة الحال، هذه المؤلفات مزيج بين الموسيقى العربية والفلامنكو والجاز وموسيقى من العالم. أما مشاركته في «مهرجانات بعلبك»، فكانت على حدّ قوله بعد اجتماع مع أعضاء اللجنة المنظّمة: «قدّمت لهم المشروع. وفي الحقيقة لم يكونوا قادرين على المجيء بمجموعتي من لوس أنجليس لكن هذه المشكلة فتحت الباب أمام مشروع أوسع، وهو أن آتي بأشخاص من لوس أنجليس وإسبانيا ولبنان. «الجذور في أيدينا» هو عنوان ألبومي الذي أسجّله حالياً. والموسيقى التي أؤلّفها كورالية جداً وقد التقيت ياسمينا صباح في دبي قبل عامين وسألتها إن كان ممكناً أن ندعو الجوقة للمشاركة. موسيقاي تتبع تقليد التأليف الموسيقي في إسبانيا وهو مزيج من التقاليد. أنا فقط أجدّد هذا التقليد للتذكير بجذورنا المشتركة. الأغنية الأخيرة في الحفلة هي «لِبيروت» التي أدّتها فيروز والمبنية على لحن أغنية «أرانخويز». وسأتحدث خلال الأمسية عن المناظر الطبيعية في لبنان وتلك التي في إسبانيا. وكيف تمتزج في الموسيقى بطريقة طبيعية».
الأغنية الأخيرة في الحفلة هي «لِبيروت» التي أدّتها فيروز والمبنية على لحن أغنية «أرانخويز»


إلى جانب أريماني، يجتمع في الموعد المرتقب كلّ من عازف الغيتار والعود أمير جون حداد، وراقصة الفلامنكو الإسبانية كارن لوغو، وعازف الكمان اللبناني ماريو راعي، إضافة إلى ياسمينا صباح التي ستقود جوقة «جامعة القديس يوسف»، والمغنية اللبنانية فابيين ضاهر. عندما تعذّر الإتيان بفرقته من لوس أنجليس، بحث أريماني عن فنانين من مختلف المجالات الموسيقية والجنسيات لتنفيذ المشروع، بعضهم من يعرفه من قبل وآخرين يلتقيهم للمرّة الأولى: «الأمير هو عازف غيتار يعزف على العود أيضاً، التقينا في إسبانيا عام 1998 وبدأنا نؤدي في حفلات فلامنكو. والده فلسطيني ووالدته كولومبية وهو يتقن العود كذلك. لم نعزف معاً منذ 15 عاماً، وسيكون هذا اللقاء مناسبة لاجتماع جميل، خصوصاً أنّه بات الآن صاحب مسيرة منفردة مدهشة. هو الشخص المناسب لأنّه يعزف الفلامنكو لكنّه أيضاً يفهم تماماً الموسيقى الشرق أوسطية. أما كارن لوغو، فلم أعمل معها من قبل، ولكنّها إحدى أكثر مصمّمات الرقص والفلامنكو ابتكاراً، وكان مهماً بالنسبة إليّ أن أعمل مع راقصة قادرة على الارتجال وليس فقط على أداء الفلامنكو التقليدي، وعلى إدخال لغة جديدة. لم أعزف مع ماريو راعي مسبقاً ولكن ياسمينا نصحتني به لأنه يحب الارتجال وسنؤدي موسيقى تعتمد على الكثير من الابتكار والشعور والقدرة على إعادة تصور الألحان التقليدية على المسرح». ويضيف: «كانت المرّة الأولى التي نعزف معاً اليوم في التمارين وهو فنان مدهش. كما أنّ العازفة والمغنية التونسية ياسمينا عزيز عضو في فرقتي في لوس أنجليس وكان من السهل أن نأتي بها من تونس إلى هنا. والإضافة الكبيرة إلى الأمسية هي جوقة «جامعة القديس يوسف» تحت إدراة ياسمينا صباح والتي تؤدي مؤلّفاتي وهذا ما لطالما أردته».
لم يتصوّر أريماني برنامج الحفلة خصيصاً لبعلبك، إذ إنّ بعض الأغنيات عمرها 15 عاماً، ولكن أراد أداءها هناك «لأنّه مهرجان هائل وهذه الموسيقى ملائمة تماماً لهذا المسرح. هذه الحفلة هي بماثبة دائرة مكتملة في حياتي لأنّ بداياتي في الفن كانت في الموسيقى الدينية والكورالية التي تتضمّن تعدّد الأصوات. والآن مؤلّفاتي هي مزيج من الفلامنكو والموسيقى العربية والعالمية والأفريقية، تؤديها جوقة. هذا مهم جداً لي لأنّ طموحي هو الكورال، لذا فهذه الأمسية تتضمّن كل جوانب حياتي الموسيقية وأنا متحمّس جداً لها».

* «الجذور في أيدينا» لناتشو أريماني: س: 20:00 مساء اليوم ـــــ «مهرجانات بعلبك الدولية» ـــ https://www.baalbeck.org.lb