في العالم الرقمي، هناك حاجة للموثوقيّة ولأمر يثبت أصالة أمر ما. بالنسبة إلى المحتوى الرقمي، مثل الصور والموسيقى والفيديو، تقنية الـ NFT (الرموز غير القابلة للاستبدال) باتت تتكفّل بهذا. لكن على منصات التواصل الاجتماعي، برزت علامة التوثيق الزرقاء إلى جانب اسم المستخدم، مثل هوية رقمية قدّمتها تويتر وميتا مجاناً إلى حسابات المشاهير والصحافيين المحترفين والمؤسسات الإخبارية والكيانات المؤثرة الأخرى.مع استحواذ إيلون ماسك على تويتر، أوفى الملياردير الجنوب أفريقي بتعهّده بالاستعاضة عن التحقّق من «العلامة الزرقاء» بخدمة اشتراك مدفوعة اسمها «تويتر بلو». وبات يمكن لمستخدمي تويتر ببساطة دفع رسوم شهرية قدرها ثمانية دولارات أميركية مقابل انضمامهم إلى نادي النُخب. ولم يطل الأمر حتى تبيّن فشل هذه الخطة الجديدة.


إنّ القدرة على إضفاء الشرعية على حساب رقمي مقابل مبلغ من المال، تجعل نظام المنصة أكثر عرضة لأولئك الذين يسعون لانتحال شخصية الآخرين وتقديم شعور زائف بالسلطة. وانتحال الهوية في سياق المعلومات المضللة في عصر ما بعد الحقيقة، هو مصدر قلق حقيقي للغاية. عندما قدّم ماسك للمرّة الأولى علامة التوثيق الزرقاء المدفوعة في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2022، ثبّت أحد الأشخاص العلامة على حساب مزيّف لشركة الأدوية الأميركية العملاقة «إيلاي ليلي»، لينشر بعدها الحساب المزيّف والموثّق تغريدة كاذبة تفيد بأنّ الإنسولين الذي تصنعه الشركة سيصبح الآن مجانياً. خسرت «إيلاي ليلي» على إثر ذلك مليارات الدولارات بسبب خوف المستثمرين وبيعهم للأسهم. صحيح أنّ تويتر عالجت الموضوع، لكنّ الشركة سحبت موادها الإعلانية من المنصة، لتخسر ملايين الدولارات من أموال الإعلانات.
انتحال الهوية في الفضاء الرقمي هو مجرّد قمة جبل الجليد عندما يتعلّق الأمر بأساليب التلاعب المستخدمة لنشر المعلومات المضلّلة عبر الإنترنت. إذ إنّ خوارزمية تويتر تمنح مَنْ لديهم علامة التوثيق انتشاراً أكبر لمنشوراتهم. وبالتالي، تستفيد الجهات الضالعة في التضليل الإعلامي والمروّجين لنظريات المؤامرة من انتشار أوسع لم يكن متوقعاً. في حزيران (يونيو) الماضي، أكّد حساب موثّق بالعلامة الزرقاء، معلومة خاطئة مفادها أنّ «مخدّر الزومبي»، وهو مزيج من الفنتانيل والزايلازين، يفتك بكثيرين في الولايات المتحدة، قد «غزا» فرنسا، وهي رسالة تمّت مشاركتها مئات المرّات، كما أشارت فرق تقصّي صحة الأخبار التابعة لوكالة «فرانس برس». وفي مثال حديث آخر، انتشرت تغريدة أعيد نشرها آلاف المرات بواسطة حسابات عدّة تحمل العلامة الزرقاء، تضمّنت إعلاناً كاذباً يدعو مواطني شمال أفريقيا والشرق الأوسط للمشاركة في «الهجوم المضاد الأوكراني» في مقابل فرصة الحصول على جنسيات بلدان غربية.
حاول إيلون ماسك، كما يفعل دائماً، تقديم الخدمة على أنّها باتت متاحة لكلّ الناس. الرجل الذي استحوذت شركته «سبايس إكس» على قرية بأكملها في بوكا تشيكا في تكساس، من أجل أن يطلق صواريخه إلى الفضاء، أراد إقناع شعب الإنترنت أن دفع ثمانية دولارات شهرياً هو أمر لصالحهم، فلا طبقية اجتماعية عند الملياردير.
كذلك، كان التغيير في قواعد إصدار علامات التوثيق على تويتر بمثابة نعمة لنشطاء اليمين المتطرف الذين تمكّنوا من «استعادة الحضور» على المنصة من خلال شرائهم العلامة الزرقاء. واجتذب هذا التغيير أيضاً أصحاب نظريات المؤامرة، بعدما أغوتهم خطب إيلون ماسك الداعية إلى الحرية الكاملة للتعبير. حتى أنّه يعلّق ويجري مداخلات في بعض تلك الحسابات.