رحلة لم تكن السنوات الماضية سهلةً في حياة جاين بيركن (1946 ـــ 2023). فقد حالت مشكلاتها الصحية دون إقامتها عدداً من الحفلات التي كانت تعدّها وما زالت، كانت تتحمس لها رغم كل شيء. رحلت الفنانة مُلهمة سيرج غينسبور التي كانت إحدى البريطانيات الأحبّ إلى قلوب الفرنسيين عن عمر الـ76 عاماً في منزلها الباريسي مساء الأحد.

بدأت مسيرتها التمثيلية في المسرح في عمر الـ17 عاماً لتنتقل بعدئذٍ إلى السينما. كان «بلو أب» لأنطونيوني أول فيلم تلفت فيه الأنظار وتحدث «فضيحة» بسبب عريّها فيه. قدّمت أدواراً ثانوية أخرى في عدد من أفلام، لعل أبرزها «حوض السباحة» حيث تشاركت الشاشة مع ألان دولون ورومي شنايدر (1969). لقاؤها بسيرج غينسبور خلال تصوير فيلم «سلوغان» لبيار غرانبلان في نهاية ستينيات القرن المنصرم كانت نقطة تحوّل في حياتها المهنية والعاطفية. لم يكن الحب من النظرة الأولى، إذ إن بيركن وجدته كما أقرّت لاحقاً وقحاً وكريهاً، لتكتشف بعدها أنّه ليس إلا رجلاً خجولاً ومليئاً بالعقد، وهو ما جذبها إليه بعدما رقصا معاً وداس على رجلها مراراً. شكّلا ثنائياً متناقضاً وأسطورياً استمر حتى بداية ثمانينيات القرن المنصرم. مهنياً، تعاونها مع غينسبور منحها أغنيات دخلت ريبرتوار الأغنية الفرنسية وذاكرتها، ولا سيما أغنية «أحبّك، أنا أيضاً لا» (Je t’aime, moi non plus) التي كان غينسبور قد ألّفها وفي نيته أداؤها مع بريحيت باردو أولاً، ومُنع بثها في عدد من الإذاعات الأوروبية المحافظة. هي أيضاً عنوان فيلم لغينسبور أسند إليها فيه دوراً أحدث فضيحة بسبب تناوله الحرية الجنسية. ألبوم Histoire de Melody Neslon الصادر عام 1971 بات من أبرز الأعمال في مسيرة غينسبور على الرغم من عدم تحقيقه أرقاماً جيدة تجارياً. لم يضع غيسنبور في الأغنيات التي كتبها لبيركن قصتهما جانباً، فحاول تحميلها الذنب لانفصالها عنه وهو أمر أقرّته في مقابلة باحت فيها بأنّ أغنية Une Chose entre autres هي أكثر الأغنيات التي تجعلها تتذكّر حبيبها السابق لأن كلماتها موجهة مباشرة لها ويعتبر فيها أنها حصلت منه على أفضل ما لديه. «دي دو دا» أغنية أدتها في السبعينيات حيث يستغلّ غيسبور «عِقَد» جاين الشابة، لتأليف أغنية يبقى لحنها عالقاً في الذاكرة من دون أن ننسى أغنية Ex Fan des Sixties التي حققت نجاحاً واسعاً وكثيراً ما يُستخدم عنوانها لقباً لبيركن.

مع سيرج غينسبور في أكسفورد عام 1969 (أندرو بيركن)

لا يمكن الحديث عن الفنانة البريطانية الأصل من دون الوقوف عند تأثير غينسبور الكبير عليها وتأثيرها هي أيضاً على مسيرته. فهي ألهمته وهو جعلها تظهر جرأتها الكامنة حتى باتت رمزاً للإثارة والأنوثة. من هذه العلاقة، رُزقت بيركن بابنتها شارلوت التي قدّمت خلال «مهرجان كان» عام 2021 فيلماً وثائقياً حول والدتها بعنوان «جاين بتوقيع شارلوت»، اتبعت فيه خطى بيركن في جولة عالمية أدت خلالها أغنيات غينسبور برفقة أوركسترا. يتضمن العمل الكثير من الحوارات الحميمة بينهما ويتحوّل إلى فيلم عن علاقة أم بابنتها. من لحظاته القوية عودة بيركن للمرة الأولى مع ابنتها إلى منزل سيرج في باريس الذي لم تزره منذ انفصالها عن الأخير. برغم التباعد، ظلّت المشاعر قوية بينهما، فغينسبور منحها ألبوماً جديداً عنوانه «بايبي ألون إن بابيلون» بعد سنوات من تخلّيها عنه. المخرجة الراحلة أنييس فاردا صوّرت أيضاً سابقاً فيلماً وثائقياً بعنوان «جاين بي بتوقيع أنييس في» عن بيركن حيث جعلتها تؤدّي فيه أدواراً عدّة ومكثت معها طوال سنتين لإنجازه.
سرقت بيركن قلوب الفرنسيين بجاذبيتها وبهذا التناقض بين شكلها الناعم وصوتها الطفولي وفي الوقت عينه عدم خوفها من تبني مشاريع جريئة و«فضائحية»، إن كان على الشاشة أو في الأغنية. فرنسيتها المطبوعة بلكنة بريطانية، كانت عامل جذب كذلك ولم تمنعها من توقيع أغنيات ستبقى عالقة في ذاكرة محبي الأغنية الفرنكوفونية. أطلقت «دار إرميس» اسمها على إحدى أكثر حقائب يدها ثمناً، تحية إلى الفنانة التي تحوّلت أيضاً أيقونةً للموضة.
ظهرت في أعمال تنتمي إلى سينما المؤلف، فعملت مع مخرجين أمثال جاك ريفيت وأنييس فاردا


سواء في الموسيقى أو في السينما، تعاونت على مرّ السنين مع أسماء كبيرة طبعت تاريخ المجالين. بعد انفصالها عن غينسبور بسبب غرق الأخير في مشكلات الكحول والإدمان، استمرّت بالتطور فنياً، وظهرت في أفلام سينما مؤلف، فعملت مع مخرجين أمثال جاك ريفيت، وأنييس فاردا، وجاك دوايون الذي تزوجته ورُزقت منه بابنة. معه، وجدت مرشداً مهنياً جديداً ولكن هذه المرة في السينما، فكانت أفلام مثل «الحب في الأرض» و«القرصانة» كما غنّت للمرة الأولى على المسرح في أماكن مثل الـ«باتاكلان».
عانت بيركن ضربات موجعة عدّة بعد تسعينيات القرن المنصرم، ولا سيما مع وفاة سيرج غينسبور ووالدها بفارق أيام. لكن لا شك في أنّ خسارتها الكبرى كانت موت ابنتها كايت ثمرة زواجها الأول من المؤلف الموسيقي جون باري بعد سقوطها من شقتها قبل سنوات. واجهت بيركن بعدها مشكلات صحية كثيرة أضعفتها، لكنّ هذا لم يمنعها من الاستمرار في إصدار الأغنيات كما كانت لها محطات عدة في بيروت حيث أدت أعمالها أمام الجمهور اللبناني. ألبومها الأخير أصدرته عام 2020 بالتعاون مع الفنان إتيين داوو وعنوانه «عذراً، كنتَ نائماً» تماماً كعنوان الفيلم الذي أخرجته عام 1992، جاء مطبوعاً بمشاعر الحزن على فقدان ابنتها كايت. وبرغم معاناتها من المرض، كانت لا تزال ترغب في الصعود إلى المسرح والأداء لأنه كما أقرّت مراراً، فهو المكان الذي كانت تشعر فيه بالراحة.