الغالبية الساحقة من البشر المولودين عام 1926 يمكن معرفة أحوالهم اليوم. أين هم وماذا يفعلون. فهم إمّا تحت التراب، أو يقبعون عاجزين في مأوى أو على سرير في مستشفى أو على فراش في منزل. طوني بينيت أيضاً من هؤلاء، لكنّ مكانه كان مختلفاً. رحل قبل بضعة أيام، لكنه بقي حاضراً على مسرح بكامل أناقته أو في استوديو بكامل طاقته الفنية ونسبة عالية فوق المنطق من طاقاته الصوتية. حطّم الأرقام القياسية بهذا الصمود في وجه العمر، فأطلّ على المسرح آخر مرّة في عيد ميلاده الـ95 وأضاف حفلة بعد يومَين، ليبتعد بعدها عن الجمهور و«يتفرّغ» لمقاومة مرضه، دائماً بالغناء. آخر ألبوم له كان Love For Sale (مجموعة من أغنيات كول بورتر، أحد عباقرة الأغنية الشعبية التي غذّت ريبرتوار الجاز الغنائي والآلاتي) عام 2021 ومعه دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، كعمل جديد لفنان في عمره. هذا الديسك كان التعاون الثاني له مع مغنية البوب ليدي غاغا، بعد المفاجأة الكبيرة التي تمثّلت في ألبوم Cheek To Cheek (حوى مجموعة من كلاسيكيات ريبرتوار الجاز ـــ 2014) الذي جمع العملاق العتيق بفتاة تصغره بستة عقود تماماً، ناقلاً إياها من صرعاتها التافهة والقبيحة أحياناً إلى جدّية الغناء الجازي والصناعة المتينة للموسيقى. كسب بينيت الرهان في هذا المشروع، فأثبت أن السنين لم تؤثر في صوته (ما تغيّر فيه إلا بحّة طفيفة زادته سحراً) كما «أجبر» جمهور ليدي غاغا على سماع روائع الريبرتوار بتوزيع مذهل («بيغ باند» جاز ووتريات) وجمهور الجاز على «هضم» ليدي غاغا.

تمثال لبينيت في سان فرانسيسكو (جاستن سوليفان ـ أ ف ب)

واضحٌ أن أداءه في هذا الألبوم ينمّ عن عقل موسيقي كبير وخبرة في التعامل مع نمط جدّي، وهما صفتان لا تملكهما المغنية الشهيرة، لكن الأخيرة تصرّفت بذكاء وطواعية وقدّمت نتيجة جيدة جداً نسبة لما يمكن توقّعه منها هنا. الأهم أنّ الكثير من الفنانين الذين يخفت نجمهم في خريف مسيرتهم، يلجؤون إلى الالتحاق بالموجات الجديدة لإعادة لفت الأضواء وتكون النتيجة محزِنة غالباً، بينما قلّة تتجرأ على ما قام به بينيت في Cheek To Cheek ثم في الألبوم التالي (الذي لا يقلّ قيمةً وأهمية عن الأول، مع أنه فقد قليلاً من سحر التجربة). بالمناسبة، لا يحتاج المرء لنبش تاريخ طوني بينيت ليعرف، من سِمائه، أنه من أصول غير أميركية (إن أمكن الحديث عن أصول في أميركا، باستثناء شعبها المُباد) وتحديداً إيطالية. فهو واحدٌ من أبناء العائلات الكثيرة التي هاجرت طوعياً إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل الحرب العالمية الأولى، وما أحد أسباب اختياره ليدي غاغا لآخر مشاريعه الكبيرة، سوى ربما أنها هي أيضاً من أصول إيطالية. بين هذين العملين، قدّم عملاً مع عازفة البيانو والمغنية الكندية ديانا كرال بعنوان Love is Here To Stay (2018 — حوى مجموعة من كلاسيكيات الأخوَين آيرا وجورج غرشوين)، وذلك في إطار مختلف لناحية الإعداد الموسيقي. ففي حين اتجهت تجربته مع ليدي غاغا إلى الفرق الكبيرة التي يعرف أسرارها جيداً وقد عمل مع أبرز رموزها أمثال كاونت بايسي (مستفيداً ربما من عودة موضة فرق الـ«بيغ باند» في السنوات الأخيرة)، اختار التركيبة «الثانية» الشهيرة في عالم الجاز، أي ثلاثي البيانو والكونترباص والدرامز.
غنّى طوني بينيت «كلّ» ما يُعرف بـ«كتاب الأغاني الأميركي الكبير»، بصوته الجميل ذو النبرة المميّزة، وبأسلوب عاطفي وسلِس، شأنه شأن زملائه من الـ«كرونرز» الذين سبقوه وأغنوا الساحة الغنائية الشعبية الأميركية على مدى القرن الماضي، أمثال بينغ كروسبي، ودين مارتن وفرانك سيناترا وغيرهم. بدأ مسيرته بأغاني البوب الخفيفة، ثم مال إلى عالم الجاز وقدّم فيه تركةً كبيرةً، منوّعة في الشكل والمضمون ولو بقيَت غالباً كلاسيكية بالمعنى الراقي. وكذلك على غرار بعض زملائه، حضن «العرّاب» تحت جناحه الفنّي عدداً كبيراً من الأسماء الصاعدة والمكرسة، في ألبومات ثنائية أو في تجربة جامعة لعدد كبيرٍ منهم، مثل ألبومه Duets: An American Classic (2006) الذي تشارك فيه المايكروفون مع فنانين من عالم البوب والجاز الخفيف والروك والسول، أمثال ستيفي ووندر وديانا كرال وميشال بوبليه وبول ماكارتني وجون لدجند وستينغ وإلفيس كوستيلّو وسيلين ديون وجورج مايكل وإلتون جون وبربارة سترايسند وغيرهم. جزء ثانٍ من الثنائيات صدر كذلك بعد خمس سنوات من الأول، تكررت فيه بعض أصوات الجزء الأول، بالإضافة إلى مخضرمين مثل أريثا فرانكلين وناتالي كول ونجوم آخرين مثل آيمي واينهاوس وفايث هيل ونورا جونز وماريا كاري وجوش غروبان وآخرين، قبل أن يليه مباشرةً ألبومٌ على هذا النسق مع فنانين من أميركا اللاتينية، بالإضافة إلى كريستينا أغيليرا ومارك أنطوني وغلوريا إستيفان.
آخر ألبوم له كان Love For Sale الذي سجّل تعاونه الثاني مع مغنية البوب ليدي غاغا

ومن تعاوناته أيضاً الألبوم الميلادي الكلاسيكي/ الجازي النَفَس (شاركت فيه «فيينا السمفونية») الذي جمعه ببلاسيدو دومنغو، وتشارلوت تشورش، وفانيسا ويليامز. ولمّا كان لكلّ المغنين والمغنيات الكبار ألبوم مخصّص للميلاد، كان لطوني بينيت أكثر من واحد، أولاً عام 1968 وأخيراً عام 2008 مع فرقة «كاونت باسي بيغ باند» التي سبق أن سجّل معها بوجود مؤسسها الذي رحل عام 1984 (هذه من أقدم فرق الجاز التي ما زالت ناشطة حتى اليوم، تأسست عام 1935، وقدّمت، بالمناسبة، حفلة في «كازينو لبنان» أواخر التسعينيات). كذلك، من أبرز لقاءاته الفنية، الألبومان اللذان صدرا في منتصف السبعينيات وغنى فيهما برفقة عازف البيانو الكبير بيل إيفانز، الذي لا يمكن إيجاد مرافق أفضل منه في الجاز (مثل جيرالد مور في الغناء الكلاسيكي). جلس طوني بينيت «في المقعد الأمامي في جهنم» كما وصف مشاركته إلى جانب الجيش الأميركي في الحرب العالمية الثانية، وعانى الفقر والحرمان في طفولته ورأى زملاءه يطوون رحلتهم في الوجود واحداً تلو الآخر. عاشر العمالقة الذين لا نعرفهم إلا في الصوَر والنجوم الذي يتصدّرون المشهد اليوم. حياة صاخبة، مليئة بالعمل والتعب والجمال والسفر والقلق وثقل النجاح ورعب الفشل، وزاد مرض الألزهايمر من حِملِه قبل سبع سنوات، لكن يصعب أن نرى له صورةً أو نشاهده في إطلالة من دون ابتسامة. ليس تلك البلهاء أو الصفراء، بل الابتسامة التي تجعل الوجود أخفّ. عاش طوني بينيت الحياة كما يجب أن تُعاش. حياةٌ نحسده عليها. ليتها حياة كل البشر تكون حياة طوني بينيت.