لا نقرأ الكتب والدراسات الفنية أحياناً لنطلّ على حياة الفنان ونتتبع خطوط رحلته عبر لوحاته فقط، بل تأتي بعض الأبحاث مثل نزهة لاكتشاف ما هو هامشي ومغيّب، فنكتشف أنّ بعض الفنانين لم نسمع بهم، ولم يتم الإضاءة على الكثير من الإرث الفني والثقافي لأسباب كثيرة، فبقوا في العتمة. في كتابه الجديد «صالح المالحي، حياة مؤجلة ـــــ قراءة في سيرته ومسيرته التشكيلية» (مركز جلعد الثقافي) يقرأ الفنان الفلسطيني والباحث غازي انعيم حياة هذا الفنان الفلسطيني الذي لم يذكره المؤرخون في كتاباتهم لأسباب كثيرة. يحلّل تجربته التي ظُلمت في الرسم الفلسطيني لأن الفنان كان صاحب موقف سياسي.
لوحة بعنوان «المايسترو»

ولد صالح المالحي (1943 - 2013)، في قرية المالحة في مدينة القدس، ليصبح أحد أهم الفنانين الفلسطينيين. شكّلت الحياة الفلسطينية المصدر الأساس في تجربته الفنية، فصارت لوحاته سجلاً وثائقياً حافلاً لكلّ ما تعرض له الفلسطيني من مجازر. كما رسم العديد من اللوحات عن عادات وتقاليد شعبه، بالإضافة إلى رسمه الفدائي المخلّص. عمل المالحي مدرساً للتربية الفنية في الكويت التي هاجر إليها عام 1971 وقد رسم لوحات كثيرة من البيئة الكويتية أثناء وجوده هناك. عاش نكبة فلسطين عام 1948، فترسخت في أعماقه القضية، وكما يقول الكاتب: «وضع الفن والسياسة نصب عينيه في آن واحد، سيما أنه انجذب لاحقاً إلى أفكار حركة القوميين العرب، ثم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وظلت هذه مرجعيته الفكرية والسياسية ملازمة له طوال حياته التالية.
يحلل غازي انعيم أبرز لوحات صالح المالحي، لعل أهمها ما رسمه عن المرأة الفلسطينية. حوّل الفنان أخته روضة إلى موناليزا فلسطينية، فتحولت أيقونةً محمّلةً بكل معاني الوقار والجلال والكبرياء. يميز الكاتب بين موناليزا المالحي وموناليزا دافينشي في أنّ الأولى أكثر طبيعيةً وإنسانيةً، لأنها تشبهنا ونشبهها ورأسها دائماً مرفوع في كبرياء كأنها بحر فلسطين الذي بهديره يرفض الخضوع والاستسلام. يشرح الكاتب أكثر عن الحداثة في رأي المالحي، فيقول إنها تشكل تجاوز الخوف من الجديد بحيث لا يضيع المضمون، فيوظّف الشكل والخطوط والكتل والرموز في خدمة نضالية وإنسانية. لم يبتعد المالحي عن المضمون الإنساني والنضالي حتى في لوحاته التجريدية. تنوعت تجاربه التعبيرية والرمزية والتجريدية والتكعيبية ولكنها لم تكن بمعزل عن الأحداث المصيرية.
غُيِّب فنياً بسبب موقفه السياسي من منظمة التحرير ومن اتفاق أوسلو


حلّل الكاتب أيضاً الرموز البصرية في لوحات المالحي، فلوحاته مليئة بالإشارات وتشبه الحكايات الشعبية وهي تجسد رغبته في إظهار الخصوصيات الجمالية التعبيرية للثقافة الفلسطينية. استخدم الصليب، والبرتقال، والثعبان، والخفاش، والحمامة والقط والشعلة والبندقية والقارب وقوس القزح والمهرج ورموزاً أخرى، فكان كلها محاولةً جادةً للبحث في المخزون الحضاري والإنساني للموروث الفلسطيني.
حلّل الكاتب مسائل أخرى في لوحات المالحي، ولا سيما دراسته للكاريكاتور السياسي الذي أنجزه حين بدأ في التسعينيات يبتعد عن التصوير الزيتي. استخدم الأقلام الخشبية، وكان هذا التحول التقني واضحاً في رسوماته التي تمحورت حول الأرض والحكام والخير والشر، فقد عرف المالحي كيف يميز بين الوطني الغيور وبين الحاكم الخائن، فأخرج الرقيب من قلبه وأشعرنا بحرارة الدم في عروقه ووقف بجانب الفقراء وكان الطفل في رسوماته جزءاً من معركة فاصلة لا تمييز فيها بين الأعمار.
في نهاية الكتاب، خلص المؤلّف إلى أن لوحات المالحي متصلة بشخصيته، تنعكس على تجربته الشخصية. وهي أيضاً على ارتباط وثيق بالأحداث الدامية التي مرت على الشعب الفلسطيني والأمة العربية كنكبة فلسطين وصبرا وشاتيلا واجتياح بيروت. تميزت تجربته بأنّها سعت لتقديم دراما الإنسان الفلسطيني في صراعه المستمر مع العدو الصهيوني.
وبرأي غازي انعيم، فإن أحد أسباب التجاهل النقدي لتجربة المالحي هي أنه لم يكن هناك اهتمام بالحركة التشكيلية آنذاك، وبسبب موقفه السياسي من منظمة التحرير ومن اتفاق أوسلو، فانعكست هذه المواقف سلباً على تجربته الفنية.
مساهمة الفنان غازي انعيم خطوة هامة في حقل التوثيق والدراسات الفنية، لأننا نحتاج إلى هذا الأرشيف الفني الذي كاد أن يفقد في ظل غياب النقد الحقيقي وإهمال الكثير من الفنانين المهمين على الساحة الفنية الفلسطينية. بالإضافة إلى صالح المالحي، هناك العديد من الفنانين الذين غيِّبوا فنياً بسبب مواقفهم وأحياناً بسبب انشغالاتهم عن الساحة الفنية، لهذا السبب يأتي النقد الجاد ليضيء على ما نسيناه وراءنا من تحف فنية سيأتي الوقت المناسب لاكتشافها مجدداً.