في معرضه «كلّ آتٍ قريب» الذي تحتضنه «غاليري صالح بركات» حتى 12 آب (أغسطس)، يتقصّى طارق القاصوف ثيمة «التظلّم» والخسارة والتحدّيات المستمرّة التي تواجه الأفراد في جهات العالم الأربع، مضيئاً على التحوّلات العميقة التي شهدتها بيروت في السنوات الأخيرة، فجرحتها وبدّلت أحوالها. مع ذلك، تدعو أعمال الفنان اللبناني إلى التفاؤل، وإلى رحلة داخلية تقود إلى التغيير، من خلال لوحات ومنحوتات تجريديّة وهندسيّة تعيد نسج العلاقة بين المتأمّل والعمل الفنّي الماثل أمامه.المرحلة الأولى من «التظلّم» تحمل معنى الإنكار، أو الامتصاص الصامت للصدمات، ما يسعف المرء في تفادي الخسارة الكبيرة. أمّا المرحلة الثانية، فترمز إلى الغضب المعبّر عنه بالتجربة الجسديّة وأثر الواقع فيها. والمرحلة الثالثة تشي بالمساومة مع المجهول في محاولة قد تكون يائسة لاستعادة ماضٍ جميل، مع أنّ العودة إلى الوراء غير ممكنة ولا سبيل إلى «إنقاذ» الماضي. الحالة الرابعة ترمز إلى الاكتئاب والشعور بالفراغ، في حين تحمل المرحلة الخامسة والأخيرة معنى القبول، إذ بات الناس متفاهمين وراضين بواقعهم المستجدّ.
خمسون عملاً فنّياً متنوّعاً لسرد هذه المراحل الخمس، من منظور واقعيّ أليم لكنّه غير مقفل على الأمل والتفاؤل. رسوم هندسيّة ومنحوتات مربّعة أو مثلّثة وتكوينات عمودية تردّنا إلى بول كْلي القائل بأنّ «الفن لا يعيد إنتاج المرئي بل يجعل اللامرئي مرئياً». والشكل المربّع لدى القاصوف، يستلهم الموروث التراثيّ الشرقيّ (الأرابيسك) والتجريد الهندسيّ الأوروبي معاً، لصوغ شكل فائق الدلالة والغنى الفنّي. إنّه المحور الذي تتفرّغ منه علامات المكان والهجرة والإقامة وتقلّبات الزمن. الحياة ـ بالنسبة إلى الفنان ــ مثقلة بالمشقّات التي يعبّر عنها بـ«حواريّات» هندسية تتشكّل ولا تكتمل. أمّا المثلّثات، فتوحي بالتحوّلات التي تعتري أزمنتنا الحديثة الماضية في كلّ الاتجاهات.
الشكل المربّع يستلهم الموروث التراثيّ الشرقيّ (الأرابيسك) والتجريد الهندسيّ الأوروبي


يتساوى الانسجام والتناقض في معرض القاصوف. لغته بسيطة لكنّها تبدو للبعض عصيّةً على الفهم والإدراك. هو ينحت في حجر البازلت، أي من الصخرة البركانية التي تنطوي على الوحدة الصلبة والمتفجّرة في الوقت نفسه، للدلالة على اتحاد البشر وتبعثرهم. والمادة الثانية التي ينحت فيها هي رخام الكارارا الذي يجمعه بالنحاتين على مدى ألفي سنة. والمادة الثالثة هي الحجر الجيري المحلّي الذي يصله بالوطن، فضلاً عن ورقة الذهب المستخدمة في الفنّ الديني، والأيقونة في شكل خاص، بغية خلق مساحة للمقدّس في أعماله.
يستكشف طارق القاصوف العلاقات بين الجمود والفراغ. تأخذ الفراغات لديه أشكال المسافات التي تنشئ بدورها مسافات وأشكالاً مختلفة. يقول «إنّ الفراغ يشبه المسافة بين الكلمات، أو الفواصل الصامتة في الموسيقى التي ليست أدنى أهمية من النوطات نفسها. هي مساحة بين عالمين».

تدعو أعمال الفنان اللبناني إلى التفاؤل، وإلى رحلة داخلية تقود إلى التغيير

أما عمله على النماذج والفراغات، فهو استكشاف للعلاقات بين الضوء والظل أيضاً، وبحث عن طاقات كامنة في المواد المستخرجة من قلب الأرض. إنّه التوازن بين الطاقات الكامنة والأضواء والظلال والفراغات، مشكّلاً المسارات التشكيلية المختلفة لاكتناه المعنى الجوهريّ.
بساطة النحت والتكوين لدى القاصوف تعيدنا إلى فناني مفهوم «الأقلّ هو الأكثر» أمثال روبرت موريس، وكارل أندريه، ودونالد جود، وفرانك ستيلّا، وريتشارد سيرّا وآخرين ممّن اعتمدوا البساطة و«الحياديّة» وسعوا بواسطة مواد غير معقّدة إلى الإيحاء بأنّ تكويناتهم هي تكوينات نهائية قبل انحلالها. محتوى الشكل البسيط هو الشكل نفسه ولا يروم إيصال انفعالات عاطفية. والاستبطان عند القاصوف هو في جوهر العملية الفنية، فمن خلفية تخصّصه في الهندسة المعمارية التي يحسبها لغةً عالميةً، تسهّل اللغة الهندسية التواصل مع المتلقّي، بلوغاً إلى المعنى «الروحيّ» والحوار بين المرئيّ وغير المرئيّ. يوضح القاصوف: «إنّها تجربة حِداد كان عليّ أن أخوضها عبر إنتاج هذه الأعمال. بدأ الأمر برغبة الحداد على مدينتي بيروت، ومن ثمّ التصالح معها. إنّما تبيّن لي أنّه كان عليّ أن أتصالح مع نفسي قبل استعادة علاقتي بالمدينة». من هنا كانت الإضافة الختامية على المراحل الخمس، مانحاً إيّاها عنوان «من أنت الآن؟» مقتدياً «الغشطالت» الذي استخدمه المهندس المعماري العالمي والتر غروبيوس، مستنجداً بمفردة في علم النفس تدلّ على الإحساس بالكلّ بدلاً من مجاورة الأجزاء. فكلّ عنصر هو فريد ومستقلّ، بيد أنّه في الوقت عينه جزء من كلّ.

«كلّ آتٍ قريب»: حتى 12 آب (أغسطس ) المقبل ــ «غاليري صالح بركات» (كليمصنو ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/345213

من التصميم إلى النحت
بعد إتمام دراسته في الهندسة المعمارية والتخطيط المدنيّ، غامر القاصوف في فنّ التصميم، قبل انتقاله إلى النحت. في عام 2018 تلقى دعوة من Swatch Art Gallery في شنغهاي، كما حاز فرصة العمل لعلامات تجارية عالمية مثل Cartier و FIFA . شاركت أعماله في معارض شملت أنحاء متعددة من الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا والولايات المتحدة، وهو يوزّع إقامته بين بيروت وسيدني.