هناك شيء جذّاب ومرعب في رؤية كيف يخاطر الأشخاص الذين لديهم معايير واهتمامات وقيم أخرى في حياتهم، من أجل كسر الأرقام القياسية في رياضة ما. وأيضاً، هناك إشكالية معيّنة في الطريقة التي تتطرّق بها السينما، وخصوصاً الوثائقية، لهذه الرياضات والطريقة التي تقدّمها للمشاهدين. في وثائقي «أعمق نفس» (2023)، الذي طُرح أخيراً على منصة نتفليكس، تأخذنا المخرجة لورا ماكغان، في رحلة إلى أعماق المحيطات من خلال رياضة خطرة تعرف بـ«الغوص الحرّ». رياضة لا تستخدم فيها أجهزة التنفس الخارجية، بل تعتمد فقط على قدرة الغواص على حبس النفس لأطول فترة ممكنة حتى الرجوع إلى سطح الماء.
مشهد من الشريط

هذا «التطرّف» هو الإلهام الأعظم للأفلام الوثائقية، التي يمكن أن تكون رائعة في مكان ما، لكنّها أيضاً ستسبّب انزعاجاً معيناً لدى أولئك الذين يملكون تحفظات أخلاقية معينة، وخصوصاً في طريقة السرد. بهذا المعنى، فإنّ «أعمق نفس» وثائقي إشكالي يروي القصة الحقيقية لكلّ من أليشيا زيكيني وستيفن كينان. يركّز الجزء الأكبر على بطلة الغوص الإيطالية أليشيا، التي تحاول تحطيم الأرقام القياسية في الغوص الحرّ. ستتنافس مع نفسها، ومع منافستها الرئيسية اليابانية هاناكو هيروسي، وأمام عينيها أرقام مُلهمتها البطلة الأسطورية ناتاليا مولتشانوفا (1962 ــ 2015) التي اختفت في أعماق المحيط قرب إسبانيا. في الوقت نفسه، يروي الوثائقي قصة الإيرلندي ستيفن، أحد أهم الغواصين في العالم. بعدما دنا من الموت، كرّس حياته ليكون غواص سلامة لمساعدة ممارسي الغوص الحرّ. أنشأ أيضاً مركزاً لتعليم الغوص في منطقة دهب في مصر (حيث فقد أكثر من مئة غواص حياتهم)، يستقبل فيه المحترفين الذين يسعون للتدرب معه، وأيضاً تدريب المسعفين. يروي الوثائقي قصة الصداقة والرفقة والولاء والتضحية والحب بين أليشيا وستيفن، وبين كل من يمارس هذه الرياضة. في «أعمق نفس»، نتعرّف إلى هذه الرياضة المذهلة، التي يمكن أن تكون مجهولة لكثيرين، وإلى الأشخاص الذين وجدوا شغفهم فيها، ويجدون فيها دافعاً للعيش. قد يجد بعض المشاهدين جنوناً غير مفهوم في هذه الرياضة بسبب قسوتها وعنفها، لأنّ الغوص من دون مساعدة، لأكثر من مئة متر ولمدة أربع دقائق تقريباً، يجعل الخروج من الماء مميتاً. يصل كثيرون من الغواصين إلى فقدان الوعي خلال الخروج، ويجب إسعافهم خلال دقيقة أو دقيقين، وإلا سوف يفقدون حياتهم.
تقدم ماغان فيلماً وثائقياً من شأنه أن يثير اهتمام عشاق الرياضات الخطرة، تستخدم لقطات أرشيفية، مع إعادة تمثيل بالإضافة إلى شهادات العائلة والمقربين من البطلين. يكشف لنا الوثائقي حياة هؤلاء الذين يغامرون في حياتهم وعاداتهم. نرى كيف يقضي السبّاحون دقيقةً من دون تنفّس في ذكرى إحدى المتوفّيات، ويتحدثون عن العاطفة والفاجعة عند فقدان شخص تحت الماء، وطبعاً الشغف إزاء ما يصفونه بالتجربة الفريدة تحت الماء، مع آخر نسمة هواء يأخذونها قبل الغوص.
يروي الشريط القصة الحقيقية لكلّ من أليشيا زيكيني وستيفن كينان


«أعمق نفس»، متحرّك للغاية، أفعوانة عاطفية من شأنها أن تثير إعجابنا بالمناظر المدهشة وهذا العالم الغريب عنّا. ولكن هيكل الفيلم صعب للغاية بالنسبة إلى الحدود الأخلاقية للفيلم الوثائقي. لن نقول الأسباب كلّها، ولكنّ جزءاً من مشكلة الفيلم هو في ما يقوله وما يخفيه. هناك آليات خياليّة مستخدمة مشبوهة بعض الشيء بالنسبة إلى هذا النوع من الوثائقيات، حيث من الواضح أنه تم التلاعب بوحشية مع المشاهد الحقيقية والمصوّرة، فنشعر كأنّنا نشاهد فيلماً تشويقياً أكثر منه فيلماً يصف حياة بطلين. واحدة من الحيل المستخدمة في الفيلم أنّه يجعلنا نعتقد أنّ شيئاً خطراً حدث مع أليشيا، إذ يبدأ الفيلم بمقابلة أرشيفية معها تتحدث فيها عن عدم الخوف من الموت، ثم يكمل حديثه عن طفولتها وعلاقتها بوالدها وهو يتحدث وعيناه دامعتان طوال الوقت. تم تنظيم هذا السرد طوال الفيلم لتكريس فكرة أننا متجهون نحو أسوأ نهاية حياة ممكنة! هذه السلسلة من التلاعبات تثير الغضب، كأن هناك كاتب سيناريو هوليودياً يتحكّم بالفيلم الوثائقي ويشكّله حسب رغبته. «أعمق نفس»، يخدع المشاهدين ليصدقوا أشياء أخرى، ويصيب الجميع بالصدمة في النهاية.
لا يحاول الوثائقي إدانة من يمارس هذه الرياضة، لكنّه يدعنا للتجربة. إنّه صورة مذهلة لرياضة متطرّفة، ودراما بزاوية مأسوية وقصة حب حزينة. «أعمق نفس» من جهة، هو تجربة آسرة، أعجوبة بصرية في أعماق المحيطات تظهر جمالاً مرعباً لكائنات بشرية صغيرة محاطة بالعالم الهائل تحت الماء. ومن جهة أخرى، هو تجربة مؤلمة ومدمرة في أكثر جوانبها تطرفاً، وأيضاً في طريقة تقديمها.

* The Deepest Breath على نتفليكس