في إحدى الليالي، أثناء إجراء أنشطة علمية في مدينة أميركية صحراوية صغيرة، يبلغ عدد سكانها 87 نسمة، يظهر جسم غامض من السماء، فوق كل الحاضرين. ينزل مخلوق ودود من سفينة فضائية ويأخذ النيزك الصغير من المدينة، أمام الجميع. تجمّد الجميع، لا أحد يعرف كيف يتصرف، ثم قررت الحكومة أنه من الأفضل إبقاء جميع الشهود في حجر صحي في المدينة، من دون الاتصال بالعالم الخارجي، لفترة من الزمن.يطلق على هذه المدينة اسم «مدينة الكويكب»، لأنه قبل 5000 عام، وقع هناك نيزك صغير وترك فوهةً كبيرة. في عام 1955، كانت المدينة مرصداً فلكياً للحكومة، تحوي مرآباً لتصليح السيارات يملكه ميكانيكي (مات ديلون)، ومطعماً، وموتيلاً يمتلكه ستيف كاريل، وجسراً لم ينتهِ بناؤه. هذا النيزك الصغير هو الجاذب السياحي الوحيد في المكان، بالإضافة إلى أنّ الحكومة قررت قبل سنوات أن تعلن عن مسابقة علمية لأفضل المخترعين الصغار في البلاد، ودعتهم وعائلاتهم إلى المدينة للكشف عن اختراعاتهم الاستثنائية، وإعطاء جائزة لأفضل اختراع في احتفال علمي صغير. أول من يصل إلى المدينة هو أوجي ستينبيك (جايسن شوارتزمان)، مصوّر حرب وأب لثلاث فتيات صغيرات، وابنه الأكبر وودرو (جايك رايان) الذي يشارك في المسابقة. يخطط أوجي بعد انتهاء ابنه من المسابقة أن يأخذ بناته للبقاء مع جدهم الغني ستانلي زاك (توم هانكس). يصل بعدها العديد من المراهقين إلى المكان مع أهاليهم، من بينهم النجمة السينمائية ميدج غامبل (سكارليت جوهانسون، التي تبرز من بين حشد الممثلين، بحضورها الذي يشبه الحلم الجميل، فتحدّد نغمة الفيلم بأكمله)، وابنتها المراهقة دينا (غريس إدواردز)، المشاركة في المسابقة. في خضم الاحتفالات والمسابقات العلمية، تأتي الزيارة الخارجية غير المتوقعة، ويُفرض الحجر الصحي، ما يجبر الزوار على التفاعل أكثر مع بعضهم والعيش معاً لفترة من الزمن.
هذه القصة التي يخبرنا إياها ملك الحكايات، المخرج الأميركي ويس أندرسون في فيلمه الحادي عشر الطويل «مدينة الكويكب» (2023) الذي يُطرح هذا الشهر في الصالات اللبنانية، هي بحدّ ذاتها مسرحية، ألفها كونراد إيرب (إدوارد نورتان)، وأخرجها شوبرت غرين (أدريان برودي)، يسردها لنا الراوي (براين كرانستون) من خلال برنامج تلفزيوني.
حقق ويس أندرسون توازناً بين الكوميديا والدراما، وبين الطفولي والناضج

إذا كنتم تعتقدون أننا كشفنا الكثير من القصة، فلا تقلقوا، لأنّ أندرسون يقدم لنا في شريطه الجديد كما عادته فيلماً سينمائياً على شكل دمى الماتريوشكا الروسية، قصة داخل قصة داخل قصة. وهكذا، ينتقل بنا المخرج من الأبيض والأسود إلى الألوان والعكس، بشخصياته التي تكسر الحواجز وتنتقل من المسرح، إلى التلفزيون فالشاشة الكبيرة. من ناحية، لدينا البث التلفزيوني (الأبيض والأسود)، عملية تحضير وكتابة وإنشاء المسرحية، ومن ناحية أخرى، المسرحية ذاتها (بالألوان) في المدينة الصحراوية، حيث تتدفق الأفكار والعواطف وتتصادم الشخصيات وتتطور الحكايات. وبين هذا وذاك، ينقلنا الفيلم والممثلون إلى الغرف الخلفية، خلف الكواليس، ليخبرونا قصصهم الحقيقية بعيداً عن التمثيل.
كما هي الحال في جميع إبداعات أندرسون، هناك طبقات فوق طبقات، اقتباسات فوق اقتباسات، فكاهة وحنين إلى الماضي، وطبعاً، الشعور بأنك لن تصل أبداً إلى قلب القصة أو جوهرها، ولكنك تكتشف أنك عشتها كلها في النهاية. لا ذكاء اصطناعياً ولا أي شخص آخر يمكنه نسخ ويس أندرسون، لأنه يتمتع دائماً بروح دعابة جافة، وصرامة مرئية، من دون أن يترك أبداً منطقة راحته الخاصة (بصمته السينمائية). هو القلب الكبير للشخصيات الغريبة، وفي جديده يُظهر مرة أخرى إتقانه سرد الحكايات، وعبقريته في خلق تناقضات تراوح بين سخافة المواقف والاستقامة المطلقة لشخصياته المضطربة الحزينة، هذه المخلوقات التي يحبها خالقها بجنون.
قدم أندرسون في «مدينة الكويكب» معجزة خافتة ومتألقة لعالم غير مستقر، حيث تظهر العناصر المرئية الشكلية الأندرسونية المعتادة، وتهيمن بطريقة مغرية ورؤيوية بقدر ما هي مقلقة إلى درجة الإزعاج. يقف في جديده على حافة تشويه منمّق آخر، كل شيء فيه أصبح متطرفاً: التداخل بين الشخصيات (مع عدد لا يحصى من الممثلين)، واللمسات الكرتونية في أسلوب «وارنز برازرز» القديم ثنائي الأبعاد. وهيكل درامي فوق بحر من الحكايات، واللحظات العاطفية التي تخرج من الشخصيات التي تتصارع داخلياً وتكشف قلقها من الحياة والحب والزواج والموت والفقدان. وفوق كل هذا، يعرض لنا أندرسون هذا الفيلم بعلامات بدء للفصول التي تتكون منها القصة، والإشارة بالأرقام الرومانية إلى المشاهد التي سيتم عرضها، والتأرجح بين المسرحية والمطبخ الخاص بها وبرنامجها التلفزيوني. «مدينة الكويكب» هو أعظم نزوات أندرسون، أيقظ فينا ذكرى أفلام الفرنسي جاك ريفيت، مبدع الأكوان المسرحية السينمائية، التي تُرى فيها الحياة في مرآة الفن.
يستحضر أجواء الخمسينيات وهوس الحرب الباردة من خلال شخصيات العسكريين والعملاء السريّين


كل مشهد في «مدينة الكويكب»، يبدو كأنه لوحة مصمّمة ببراعة مليئة بالتفاصيل الصغيرة. إن تقدير ويس أندرسون للتناظر وأنظمة ألوانه المعقّدة وتصميماته الدقيقة موجودة طوال الوقت. يمزج صانع الفيلم بصمته السينمائية، بغرور وحزن وانعدام الأمان في شخصياته، ما يخلق نسيجاً غير عادي من العلاقات البشرية (وغير البشرية) في هذه المدينة الصغيرة وكواليسها. هنا يُصنع السحر، في هذا المكان يوجد كل ما هو جيد عند أندرسون، وبأفكار متجددة، وقدرة على الاستمرار في إنشاء مشاهد وصور لا يمكن أن ننساها.
صوّر الفيلم على شريط كوداك 35 ملم (صوّر الفيلم المصور السينمائي روبرت دي يومان، دائم التعامل مع أندرسون)، معتمداً بشكل حصري تقريباً على الضوء الطبيعي لتحقيق هذا النسيج الدافئ الشبيه بالحلم، وبألوان الباستيل التي تُشير إلى عصر أيزنهاور للازدهار الاقتصادي، وظهور الإعلانات وانتشار أكثر اختراعات القرن العشرين تأثيراً: التلفزيون. «مدينة الكويكب» يستحضر أجواء الخمسينيات من القرن الماضي، حيث نرى هوس الحرب الباردة من خلال شخصيات العسكريين والعملاء السريين.
نحن أمام شريط، تتغير فيه بسرعة نسبة العرض إلى الارتفاع، ويتوسع إلى شاشة عريضة، مع ألوان تبدو كأنها مطليّة بالماء، في منظر حقيقي يبدو كأنه رسم، مع ممثلين حقيقيين يتصرفون كأنهم شخصيات من كتاب هزلي. نواجه فيلماً هو في الوقت نفسه مسرحية وواقعاً مفترضاً داخل خيال. مزج عناصر الخيال العلمي في بيئة غريبة تناسب جمالية أندرسون بشكل مثير للدهشة ويضيف وجهاً جديداً لأفلامه. إننا أمام فيلم خيال علمي وأيضاً كوميدي ورومانسي، فيلم مغامرة وحلقة من حلقات «لوني تونز». لكن أندرسون لا يتوقف عند هذا الحد، بل يعرض أيضاً مهنة التمثيل، ويطرح أسئلة عن ماهية الفن، ويستمر بأن يكون الفنان الشامل الذي يضع الاتجاهات، يشعّ بالهيبة والسحر والموهبة.

مشهد من Asteroid City

في بعض الأحيان، قد نشعر بأن المسارات التي يسلكها «مدينة الكويكب» تتميز بعدم الترابط، لكن الصدق الذي ينقله أندرسون يغلب هواجسنا وقلقنا. أخيراً يبدو أندرسون أنه منفتح على مشاهديه ويُتيح لنا الاقتراب منه قليلاً. لعلها المرة الأولى التي يكون فيها أندرسون أقرب إلى شخصياته، وأكثر عاطفية، وأكثر دفئاً من المعتاد. من خلال ذلك، تمكّنا من تجاوز مرئيات الفيلم وتمكّن أندرسون من استحضار الحنين إلى الماضي من خلال الشخصيات التي تشعر أيضاً بالحنين، وبعضها لفقدان أحد أفراد أسرتها، وبعضها الآخر لعدم القدرة على التعبير، والتواصل بعمق مع الآخرين أو معاناة محاولة أن تكون والداً صالحاً. يحقق أندرسون أيضاً توازناً بين الكوميديا والدراما، وبين الطفولي والناضج (مرة أخرى الأطفال أكثر ذكاءً ومرونة من البالغين).
ينتهي «مدينة الكويكب» بالحزن. بعدما كانت المدينة مليئة بالناس والصيحات والتفاعلات الإنسانية، تصبح فارغةً مثل الهدوء الذي يتبع العاصفة. ولم يتبقَّ شيء سوى الغبار، الذي يغطي تلك المدينة المهجورة في الصحراء. هذا الغبار الذي ينبثق منه التاريخ، غبار الهراء المطلق للمساعي البشرية، غبار الطريق التي يقذفه طائر الركاض، غبار صخب الكورال الذي يذكر دائماً بأنه «لا يمكنك الاستيقاظ إذا لم تنَم».

Asteroid City
هذا الشهر في الصالات اللبنانية