تحظى شخصية «بانشو فيلا» (تُلفظ فيا بالإسبانية/ المكسيكية) الثائر المكسيكي القادم من الفقر المدقع صعوداً نحو الشهرة وقيادة بلاده، بالكثير من الضجة والمعلومات المغلوطة والصحيحة. تأتي «غزوة كولومبوس» التي هاجم فيها الولايات المتحدة الأميركية كواحدة من النقاط المدهشة في حياته، إذ إنها كانت ربما من المرات الأولى التي هجم فيها المكسيكيون على «الشيطان القريب» كما كان يسميهم فيلا نفسه وفق ما نقل عنه مساعده الأقرب رودولفو فيرّو. يأتي المسلسل المكسيكي «بانشو فيلا: قنطور الشمال» (يعرض على «ديزني بلس»)، في محاولة «جادة» من الكاتبين رافا لارا وأنريكي رينتريا للإجابة عن السؤال الأبرز: هل يستحق فيا كلّ هذا؟ هل كان فعلاً ذلك الأسطورة؟ أم أنه مجرّد «قاطع طريق» عادي كما تصوّره وسائل الإعلام الأميركية عادةً مع وجهه المتّسخ وثيابه المهلهلة وأحزمة الرصاص الجلدية التي يتزنّر بها؟ أخذت التسمية من مجموعة قصصية كتبها المكسيكي وينديل مايو، ونقل فيها قصصاً رويت عن فيلا تناقلها أجداده وأقرباؤه بوصفه «بطلاً شعبياً خارقاً، قهر الهاسيندا والباترونات (الإقطاعيين وملّاك الأرض) الظالمين». والقنطور هو كائن من الأساطير الإغريقية نصفه حصان ونصفه إنسان، وربما عاد هذا التوصيف إلى أنّ فيا قد أمضى أكثر من ثلاثة أرباع عمره على ظهر حصانه محارباً لأجل المكسيك وفقرائها. يروي المسلسل الأشبه بوثائقي/ درامي (دوكيودراما) على عشر حلقات حكاية الصبي/ الشاب خوسيه دوراتو أرانغو القادم من دورانغو إحدى أفقر المناطق المكسيكية. عاش حياة عادية إلى أن تحرّش أحد رجال الإقطاعيين بشقيقته، فأطلق النار عليه. أمر أجبره على حياة «قطّاع الطرق» والمطارَدين: «الفرارية والطفّار» كما في المخيال الشعبي العربي. هناك تعرّف على إغناسيو بارا، أحد قطاع الطرق المشهورين. علّمه أنَّ حتى قاطع الطريق، يجب أن يتمتّع بأخلاق وقوانين يعيش بها. لاحقاً يصطدم الشاب فيا (خورخي خيمينز) بالواقع، إذ إن بارا سرعان ما سيخالف هذه القوانين والقواعد لأنها خالفت مصالحه. هنا يقرر الشاب الذي لا يملك أي مهنة أو حرفة أن يترك قطع الطريق وزملاءه هؤلاء، وسرعان ما يتم القبض عليه، فيغيّر اسمه إلى «فرانشيسكو فيا» (آخذاً اسم جده). يدخل فيا إلى الجيش الذي لا يجد فيه ضالته، ليعود ويهرب منه، لكن هذه المرّة بعد أن يكون قد امتلك قوام القدرة على امتشاق السلاح وقيادة الفرق. واحدة من نقاط قوّة المسلسل هو الحوار، فالحوار هو الذي يعرّف المشاهد على فيا الإنسان والقائد وحتى المناضل. في لقائه الأوّل مثلاً مع أحد مثقفي الثورة ابراهام غونزاليس (خورخي لويس ايماغو)، يشرح أنه لم يكن يفهم شيئاً عن تاريخ المكسيك، ولماذا عليه أن يثور. ساعتها يصبح غونزاليس بمثابة الأب الروحي الفكري لفيا. يعرفه غونزاليس على فرانشيسكو ماديرو (أورلاند موغول) رئيس المكسيك لاحقاً، وإحدى الشخصيات الأهم في الثورة المكسيكية على الديكتاتور برفوريو دياز. لقاء فيا مع غونزاليس وماديرو ولاحقاً باسكوال أوروزكو (كارلوس ارنستو) وفينستيانو كارانزو (ماركو تريفينو) سرعان ما سيجعله ضمن قيادة الثورة التي أفضت إلى القضاء على أحد أقذر الديكتاتوريين في القارة الأميركية، الذي جدّد لنفسه ست فترات حكم مختلفة وصاحب مقولة: «اعتاد الهنود الحمر (ويقصد بهم السكان الأصليين والمواطنين) أن ينقادوا لأصحاب السلطة. إنهم عاجزون عن التفكير بأنفسهم، هذا ما قلته، وهذا صحيحٌ جداً، الفقراء جهلة، لا يفهمون إلا بالقوّة، لقد أخذوا ذلك عن الإسبان: الخضوع. أنا أُجبرت على البقاء في سبيل تقدّمهم». وبين عامَي 1913 و1914 حصد فيا شهرته الكبرى، التي جعلته ضمن أهم الثوّار المعاصرين، لسببٍ بسيط: قاوم الاحتلال الغربي لبلاده (والمقصود هنا الاحتلال الأميركي)، بخلاف «غزوة كولومبوس» الشهيرة. مثلاً استطاع القبض على مجموعة من موظفي «شركة ويلز فارغو» الأميركية الشهيرة، وأخذ منهم حمولة كاملة من سبائك الذهب (وقيل الفضة) لتمويل الثورة. وبعد تحرير العاصمة مكسيكو سيتي، رفض الأثرياء المكسيكيون دفع ما عليهم من مال للثورة، فما كان من فيا إلا أن أمر بإعدامهم لوقاحتهم وجشعهم بحسب كلامه للكاتب والصحافي الأميركي الشهير أمبروز بيرسي: «لقد نهبوا الشعب، وأخذوا أكثر من حقهم، وكانوا مموّلي النظام السابق، ومع أن لديهم الكثير، حينما طالبناهم، أجابونا بمنتهى قلة الأدب، بأنّنا هنودٌ متخلّفون (هنود بمعنى سكّان أصليون) . لذلك كان من الطبيعي أن ينالوا عقابهم هذا». الأمر نفسه حصل معه حين كان يتناقش مع أحد الأثرياء البريطانيين من ملّاك الأراضي الكبار، دخل إلى مقر إقامته وتحدّث معه بعنجهية، بمنطق أنكم «أيها الهنود المتخلّفون دخلتم إلى أرضي، وسرقتم أملاكي». ردّ عليه فيا: «لك الحق بأن أعطيك ثمن بيتك وأرضك، ولكن بشرط أن تغادرنا إلى الأبد». هنا شتمه البريطاني مهدداً بتدخل سفارته، ليقتله بانشو فيا. بعد الانتصار، سرعان ما تبدأ الأمور بالتعقيد، فالثورة –كعادتها- تأكل أبناءها. في تلك الأيام، كان فيا قد أصبح حاكماً لولاية شيواوا خلفاً لوالده الروحي غونزاليس الذي قتله النظام. سرعان ما اختلف مع كارانزا، وتحالف مع القائد المكسيكي الأسطوري ايميليانو زاباتا، وخاضا المعارك معك وأطلقا مانفيستو الثورة الشهيرة عام 1915. يكمل المسلسل مراحل مهمّة من حياة البطل المكسيكي، وصولاً حتى لحظات رحيله ومقتله على يد النظام الحاكم آنذاك، مروراً بتصويره فيلماً عن قصة حياته مع «فريق أميركي» لم يكتمل.
شنّ «غزوة كولومبوس» ضد الولايات المتحدة الأميركية


يمكن اعتبار المسلسل واحداً من أصدق الوثائقيات التي تناولت حياة الثائر المكسيكي الراحل، إذ صوّره بشكله الحقيقي المباشر بعيداً عن التضخيم والتقديس. ظهرت سمات شخصية فيا بوضوح من خلال علاقته مع كل من حوله: أظهره المسلسل مزواجاً وهي سمةٌ من سمات تلك المرحلة ثقافياً/ اجتماعياً، تناسب طباعه الشخصية. مع هذا، كان فيا عائلياً، فقد أحضر أولاده المعروفين لتربيهم زوجته لوستيا (غابريلا كارتول). في الوقت نفسه، شاهدناه قاتلاً بلا رحمة خلال صراعه مع خصومه، وهذا أيضاً جزءٌ من شخصيته المتناسبة مع تلك الحياة والأعداء المخيفين والمتوحّشين. الأمر نفسه ينسحب على طريقة كتابة وحبك المسلسل، فكل ما فيه مربوط بشكل كامل بشخصية فيا القاعدية/ الرئيسية: مثلاً تمّ تصغير دور إيميليانو زاباتا وتحجيم تأثيره على الثورة المكسيكية، بهدف الإضاءة على دور فيا نفسه. ما يُحسب كثيراً لكتّاب العمل، هو أنّهم قدّموا الولايات المتحدة، والطبقة الحاكمة في المكسيك، والبورجوازية المكسيكية والأثرياء (الهاسيندا/ الباترونات) كما رآهم فيا. إخراجياً، كما تقنياً، استطاع صناع العمل تقديم جوّ يشابه تلك المرحلة الزمنية، فشاهدنا أسلحة، ومعدات، وثياب تلك المرحلة بشكل حقيقي وواقعي. الواقعية نفسها استخدمت في العمل، فشاهدنا وجه فيا متّسخاً معظم الأوقات، وهذا لتقديم المشهد على واقعيته المتناسبة مع جو المعارك ذلك. كادرات تصوير المعارك، ولقاءات فيا بالشخصيات التاريخية بدت واضحة، وأضفت على العمل الكثير من الواقعية.
في الختام، هو مسلسل مكسيكي يمثّل المرحلة الجديدة من المسلسلات المكسيكية بعيداً عن جو المسلسلات السابقة التي اجتاحت الوطن العربي في السابق. إنه مسلسل مباشر، وحقيقي، مشابه للأعمال الهوليودية الحديثة.

* Pancho Villa: The Centaur of the North على «ديزني بلس»