في المقالة التمهيدية (راجع الصفحة) التي تناولنا فيها الدخول المستجدّ لإيسلندا إلى عالم الموسيقى الكلاسيكية، لم نتوقّف عند تجارب الأسماء التي ذكرناها ولا أجرينا تقييماً لما لها وما عليها. السبب هو أن محوَر موضوعنا هو فيكينغور أولافسون الذي سنتوسّع في الكلام عنه وفي تقييم نتاجه القائم على عدد من الديسكات التي يراوح مستواها بين الجيد والممتاز… في انتظار حدثٍ كبير يخصّه، في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، نتناوله في السياق.

عام 2017 أصدرت شركة «دويتشيه غراموفون» ديسكاً بتصميم عصري لا يشبه كثيراً خطّها التصميمي الكلاسيكي إجمالاً، لعازف بيانو يدعى فيكينغور أولافسون (Víkingur Ólafsson) في ريبرتوار نادراً ما يهتمّ به الناشر الألماني، وهو الموسيقى التكرارية الأميركية المعاصرة للمؤلف الشهير فيليب غلاس (1937). باستثناء كونشرتو الكمان وإحدى سمفونيات الأخير، بالإضافة إلى تسجيل لزميل غلاس، ستيف رايش (عمل بعنوان Drumming)، لم ينشر «دويتشيه غراموفون»، على حدّ عِلمنا، الكثير من موسيقى هذا التيار، رغم اهتمامه بالعديد من التجارب الموسيقية الحديثة والمعاصرة. حوى الإصدار مجموعة من أعمال غلاس للبيانو (باقة من تمارينه الشهيرة) وجزءاً من عمل بمرافقة رباعي وتريات. الإصدار لم يؤخَذ على محمل الجد لا لناحية الأعمال (فهي موجودة بتسجيلات كثيرة أخرى) ولا لناحية المؤدّي الذي لا يوحي مظهره بأكثر من موسيقي يتمتّع بترف المحاولة ومهتم بالكلاسيك المعاصر واستطاع الوصول إلى «دويتشيه غراموفون» لإصدار هذا الديسك، الذي لن يبدو أنّ له تابعاً. فهذا يحصل، والموضوع ينتهي غالباً هنا… لكنه في حالة أولافسون لم ينتهِ هنا. بعد أقل من سنة، وفي نقيضٍ حاد، أصدر أولافسون ديسكاً مخصّصاً لباخ، على الرغم من إبقائه على المنحى المعاصر لتصميم الغلاف. وهنا أيضاً، باستثناء غلافات قليلة لتسجيلات معاصرة، لم يتّجه الناشر العريق إلى هذا النوع من التصاميم. الديسك قنبلة في الأداء، يفلش فيها العازف كل أوراقه لناحية أسلوبه في العزف ومستواه التقني، والأهم ملمسه. مسألة الملمس في العزف على البيانو أمر شديد الخصوصية، ولائحة العازفين الذين يمكن التعرّف إليهم من خلال ملمسهم (البصمة الخاصة في طريقة ضرب المفاتيح) تحوي تاريخياً عدداً لا يتجاوز أصابع اليدين. الملمس هو كنبرة الصوت بفرادته، مع فارق أن في حالة البيانو المسألة ليست «خِلقَة»، بل مساراً حِرَفيّاً يتوصّل خلاله العازف، بالتواطؤ مع آلته، إلى ابتكار «نبرة». بالتالي، ليس سهلاً أن يضيف عازفٌ اسمَه إلى تلك اللائحة، وأولافسون استطاع ذلك. حرير على عاج. ندى فوق عشب أخضر في صباح صيف جبليّ. طراوة مفاصل طفل. كل هذا في أعمال باخ التي أكثر ما يليق بها هو هذا النوع من النبرات، بالأخص اليوم، بعدما مرّت عليها «نبرات» مختلفة أخرى، يبقى أرقاها مَلمَس الكندي غلَن غولد. الديسك حوى أعمالاً مختارة بعناية، وليس بينها قاسم مشترك سوى أنها تبرز عن قصد هذا الجانب من قدرات أولافسون (لا مجال هنا للدخول أكثر في هذه النقطة). لاقى العمل أطناناً من المديح، وذمّاً خجولاً من بعض الأقلام القديرة، التي ربّما زعزع مقاربتها الموضوعية سقوط هكذا قنبلة من حيث لم يدرِ أحد… بدء الترقّب وانتظار التالي، وبعض الأسئلة: من هو هذا الرجل الذي لا يوحي مظهره بأكثر من موظّف في بنك أو مدير في شركة عقارية؟ أين كان؟ فهو مولود عام 1984 ويُعدّ متأخراً في مسيرته بمجال البيانو. أحياناً لا يُسمع بعازفين مهمّين لأنهم يبدؤون مسيرتهم عند ناشرين مغمورين جداً، ولا تسلَّط عليهم الأضواء (وهذا ظلم) إلا عندما يحضنهم ناشر من الصف الأول أو الثاني. لكن أولافسون ليس لديه أي نشاط يُذكر قبل ذلك. هذه أسئلة فيها بعض العبث، حسناً، لكن ثمّة أخرى مشروعة: ما هي رؤية هذا العازف لمهنته؟ فالغرابة في تصاميم الأغلفة والنقلة من غلاس إلى باخ ليست بالسلوكيات المألوفة في عالم البيانو الكلاسيكي. أما السؤال الأخير: ماذا بعد باخ؟ لا شيء كان يمكن الاستناد إليه لتوقّع الديسك التالي: أعمال فرنسية من حقبتَين شديدتَي التباعد، الباروك (رامو) والانطباعية (دوبوسي)، وغلاف مزركش بألوان فاقعة وبتنفيذ مذهل الدقة والجمال (جماعة التسريمينغ لم يحظوا بهذه المتعة!) من عملاق الصناعة الموسيقية الألماني. أما النتيجة فالإجماع العالمي المؤجّل منذ ديسك باخ. الرجل خطير، وبالإضافة إلى إمكاناته الفنية يملك عقلاً متّقداً يمكنه أن يشرح ويبرّر الخيارات التي يقوم بها (نصوصه في كتيّبات ديسكاته) والتي سيقوم بها. فطريقة تركيبه للريبرتوار الذي يسجّله تشبه الـconcept album، وهذا ما سيفعله في إصداره التالي: موزار ومعاصروه. لناحية ترتيب الأعمال والمؤلفين (معظمهم مغمور، باستثناء هايدن، بالإضافة إلى موزار، مِحوَر الديسك)، لا شك في أنّ العازف الإيسلندي يعمل بإتقان ولديه سعة اطّلاع تتيح له هذا النوع من المشاريع المركّبة، بالإضافة إلى إلمامه بالتأليف والإعداد، الأمر الذي يسمح له بإدراج أعمال مناسبة لفكرة العمل، لكن ليست بالأساس للبيانو (فيقوم بإعدادها بنفسه لآلته). وهذا ما فعله في هذا الديسك، الذي لم يلقَ ترحيباً كبيراً، لكنه جيدٌ جداً، علماً أن فيه خياراً غريباً و«غلطة» واضحة في فانتازيا شهيرة لموزار (K. 397)، ينهيها قبل نهايتها شارحاً السبب في الكتيِّب بتبرير غير مقنع على الإطلاق (يتوقّف في ختام الجزء الأول مبرراً ذلك بالـ«أكّور» الأخير، بينما الجزء الذي لم يلعبه يُقفل على الـ«أكّور» ذاته!) بالإضافة إلى ضرب نوطة مختلفة (ليس عن طريق الخطأ كما يحصل أحياناً في الجمل الصعبة، وفي ذلك سحر «اللاكمال» البشري) في جملة أساسية في العمل، أيضاً بدون سبب مقنع ولا تبرير. سألناه عن ذلك على صفحته على فايسبوك، لكنه لم يجِب! بالمناسبة، هذا الأمر الذي يمكن أن يلفت أي مستمع يعرف العمل، لم يثر انتباه أي من النقّاد في الصحافة الجدية الأوروبية، وهذا يفضح كسلاً معمّماً وخللاً في الضمير المهني، لا نقصاً في الكفاءة.
ديسكه المقبل سيصدر في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل


الرجل يعمل بوتيرة عالية نسبياً، لكن بمهنية فائقة، لا شك. غير أن التالي سيكون ديسكاً «بلا عازة» على حدّ قول صديق. حتى الغلاف لم يأتِ لا كلاسيكياً ولا حديثاً، بل قبيحاً. غير أن أولافسون فنان يتمتّع بحرّية في العمل، ضمن مجال فنّي أكثر ما يكره «الحرّية» (بمعنى تكسير القواعد والقيود بدون سبب)، أي الموسيقى الكلاسيكية. وفي مشروعه الجديد (وهو الأخير لغاية الآن) عمل بهذه الطريقة، لكن النتيجة لا تفتح الشهية كثيراً: «من كل وادي عصا»، ومن كل عصا «كَسرَة» (باخ، موزار، شومان، برامز، كورتاغ، آدَس،…). لكن الأمر الملفت، بصرف النظر عن أي اعتبار، هو تسجيله كل الأعمال الواردة في الألبوم مرّتَين: مرّة على بيانو كامل الذنَب (الشكل الأطوَل من هذه الآلة) ومرّة على بيانو مستقيم (الشكل الذي نراه غالباً في البيوت والمعاهد). فقد أراد، باستخدام البيانو المستقيم (وهو أمر غير وارد في التسجيل والحفلات، أقلّه في ما خصّ الموسيقى الكلاسيكية) إظهار الجانب الحميم من الصوت الذي رأى أنه يليق بباقة الأعمال التي اختارها. أثار هذا الديسك غضب «المستعجلين» لسماع عمل ضخم، ذي بُنيَة واحدة، من هذا العازف الموهوب. و«أتباع» باخ تمنّوا أن يكون «العمل الضخم» من عند المؤلف الألماني، خاصة أن لأولافسون تجربة مشجّعة جداً تمثّلت في الديسك الثاني. ومن بين هؤلاء الـ«أتباع»، بعض «السلفيّين» الذين كانوا يُصلّون، بالفعل لا على سبيل المزاح، أن يكون تحديداً العمل الضخم من عند باخ «تنويعات غولدبرغ»… ما يمكن ترجمته في قاموس هؤلاء إلى: «أعطنا إياها من الآخِر». كالأعجوبة، بدون مبالغة، حلّ نشر «دويتشيه غراموفون» خبراً مفاده أن الديسك المقبل لفيكينغور أولافسون سيصدر في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وعلى غلافه البسيط الهادئ البارد أربع كلمات: فيكينغور/ تنويعات غولدبرغ/ باخ. الإيمان يصنع المعجزات، وصدَق من قال: ليس كل المؤلفين (نُضيف الموسيقيين والسمّيعة أيضاً) يؤمنون بالله، لكن جميعهم يؤمنون بباخ!