الظهور الموسيقي الكلاسيكي الإيسلندي كان له حيّزٌ في صناعة فيلم «تار». بالتالي، لن نجد مناسبة أفضل للكلام عن هذا العمل السينمائي، لأنه بالنتيجة من اختصاص الكتّاب بشأن الفن السابع. لكن كون الموسيقى تشكّل محوراً أساسياً فيه، لنا ما نقوله عنه، موسيقياً وباختصار.أكثر ما يلفت في «تار» هو الجدّية في البحث الموسيقي التاريخي والنظري وكل ما له علاقة بصناعة الموسيقى الكلاسيكية الغربية من ديسكات وناشرين وأعمال وأوركسترات وموسيقيين (بشكل خاص قادة الأوركسترا نساءً ورجال) وغير ذلك. إذ يطالعنا في الفيلم كمٌّ هائل من المعلومات والأسماء والتفاصيل، التي تمّ إدراجها في سياق الحبكة بدقّة متناهية، ومن دون أخطاء إهمال أو جهل ومن دون تحويرات مقصودة لضرورات التشويق السينمائي (وهي أحياناً جميلة إن أتت تحت عنوان الفانتازيا، كما في فيلم «أماديوس»، غير الدقيق أو البعيد كلياً عن الحقيقة التاريخية في جزء منه). لكن لهذا التوظيف المسهَب كمّاً ونوعاً سيئة واحدة هو أن المشاهد لن يفهم بعض التفاصيل إن لم يكن ضليعاً بهذه الأمور ومتابعاً جدّياً للنشاط الحالي في مجال الكلاسيك الغربي. هذا أيضاً ما أوقع الكثير من نقّاد السينما في أخطاء شكلية أو جوهرية وفوّت عليهم غالباً فرصة تناول بعض الجوانب المهمة في الفيلم، كما حَرَم الكثير من المشاهدين متعةً إضافية في بعض المشاهد وفي العمل عموماً. لكن أكثر التفاصيل المثيرة والمبطّنة لدرجة تحفّظنا على تأكيد أنها مقصودة هو شخصية إليوت كابلِن، بدَور رجل الأعمال وقائد الأوركسترا الهاوي. فالفيلم يتمحوَر حول السمفونية الخامسة لغوستاف مالر (التي شهرها فيلم «موت في البندقية» بالمناسبة) وثمة رجل أعمال، في الحقيقة، يدعى غيلبرت كابلِن (Gilbert Kaplan) كان مهووساً بمالر، لكن بسمفونيته الثانية لا الخامسة. أمّا «أعماله الكاملة» فتضمّ ثلاثة ديسكات، وهي عبارة عن ثلاثة تسجيلات للعمل ذاته، السمفونية الثانية، من بينها واحد مع «أوركسترا فيينا الفلهارمونية» ومنشور عند «دويتشيه غراموفون» (لا بدّ من أنه دفع ملايين الدولارات لهاتَين الجهتَين للقبول بمشروع يمكن المراهنة مسبقاً على فشله). إن كان الأمر مقصوداً فعلاً، فهذا يدلّ على أن الفيلم حظي بمستشارين محنّكين في هذا المجال.
من جهة أخرى، يجب القول إن التمثيل «الموسيقي» لكايت بلانشيت كعازفة بيانو، أتى بجزء منه ممتازاً رغم صعوبته الفائقة لامرأة خمسينية تعلّمت بعض قواعد العزف على الآلة من أجل دورها في الفيلم (مثل مشهد العزف على البيانو في المعهد) وركيكاً جداً في جزء آخر (مثل مشهد عزفها على البيانو خلال جلسة تأليف في منزلها، وكذلك مشهد مرافقة عازفة التشيلّو خلال التمارين على كونشرتو إلغار أيضاً في منزلها). أمّا دورها في قيادة الأوركسترا، فأتى ركيكاً غالباً، لكن المفارقة أن هذه الركاكة لها إيجابية كبيرة، لأنها تعكس الواقع. فهذه «الركاكة» الشكلية حقيقة مشتركة بين معظم قادة الأوركسترا من النساء (ربما بسبب حداثة عهدهنّ في المجال، وهذا ينطبق على الرجال عندما يمارسون دوراً عُرِفت النساء به تاريخياً) وهو ما لا علاقة له بالنتيجة الفنية، التي لا شيء يمنع أن تكون ممتازة.
إليكم أخيراً بعض الأرقام، التي لا تفيد بشيء طبعاً، لكن من باب الإحصاء للدلالة على مدى انغماس الفيلم في الموسيقى.
جدّية في البحث الموسيقي التاريخي والنظري

إحصاءٌ قمنا به بأنفسنا، وقد لا يكون دقيقاً مئة في المئة، إذ ربّما فاتنا تفصيل في هذا البحر من المعلومات والأسماء التي لم يتوقّف ظهورها طوال الفيلم. إذاً، يُذكر في الفيلم تسع أوركسترات (من بينما أوركسترا العدو، وهي ذات مستوى جيّد بين أوركسترات الصف الثاني)، نحو أربعين شخصية موسيقية (مؤلفين وعازفين) بدءاً من عصر الباروك المبكر في فرنسا (لولي) وصولاً إلى نجوم حاليين. مع الإشارة إلى أن ثلاثاً منهم ذُكروا معاً، وهم شارل دوتوا وجايمس ليفاين وبلاسيدو دومينغو، لسبب مشترَك هو أنهم أول المتّهمين من حملة #MeToo في مجال الموسيقى الكلاسيكية. أما عدد الأعمال المذكورة في الفيلم، باستثناء كل ما خصّ سمفونيات مالر، فهو حوالي عشرة أعمال (أكثرها دلالة على جدّية الفيلم موسيقياً هي «أركانا» الصاخب جداً لإدغار فاريز و4’33 الصامت كلّياً لجون كايج). في ما خصّ الناشرين، يُذكر فقط في الفيلم اسم الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون»، أولاً لأنه الأهم في فئته، ثانياً لأن موسيقى الفيلم صدرت عنده. أما الشخصية الموسيقية الوهمية الوحيدة التي يرد اسمها في الفيلم فهي «أندريس دايفس» الذي يتم تناوله بصفته القائد السابق لـ«أوركسترا برلين».