أوّل ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر طرابلس هي الآفات المستفحلة على الأصعدة كافة في المدينة الشمالية. الإهمال المستمر منذ عقود الذي تفاقم مع الأزمة الاقتصادية الأخيرة، غيّب الإرث الثقافي والاجتماعي الغني للمدينة التي كانت تتمتّع بمكانة كبيرة في زمن مضى وتحتوي على كنوز دفينة يجهلها كثيرون. منذ نشأتها، اهتمّ أمراء طرابلس وحكّامها بثلاثة جوانب أساسية، هي: الاستراتيجي العسكري، الاقتصادي، والروحي. هكذا، شيّدوا منشآت ذات طابع معماري مميّزة مرتبطة بها، كما حصل مع تحسين دفاعات قلعة المدينة أو بناء المساجد أو توسيع السوق القديم.
من كتاب «لبنان» لفولفيو رويتر

يعكس سوق طرابلس القديم الوجه الحقيقي لـ «أم الفقير» بكل تفاصيلها. فهو نواة المدينة والمكان الذي تعتاش منه وتقطنه أسر طرابلسية كثيرة. يعكس السوق بأزقته ودهاليزه حقبات ازدهار وانحسار طرابلس. فكل من حكمها في مختلف الحقبات، كان لا بد له من أن يضع بصمته المعمارية فيها للدلالة على أنّه «مرّ من هنا».
على الرغم من ملازمة الخياطة لطرابلس منذ القدم، إلّا أنّ إنشاء خان مخصص لهذه الحرفة يظهر الاهتمام الكبير بها. تاريخياً، لا وثيقة تحدّد تاريخ بناء «خان الخياطين» وهوية مؤسّسه، وفق ما يؤكّد المؤرّخ عمر تدمري في كتابه «تاريخ طرابلس الحضاري والسياسي». لكن الروايات المتداولة ترجّح أنّ يكون قد شيّد سنة 1341 على يد الأمير بدر الدين في العهد المملوكي. وتفيد بأنّ المماليك كانوا يسعون إلى تحويل الخياطة من موهبة إلى مهنة وتجارة، وخصوصاً بعد عثورهم على أكثر من 4 آلاف نول حياكة باقية من عهد الصليبيين. عمدوا إلى إيجاد مكان مناسب ليمارس الخياطون مهنتهم باحتراف، في إطار سعيهم إلى الحفاظ على حرفة الخياطة التي تشتهر بها طرابلس. هكذا، وُلد «خان الخيّاطين» الذي يشكّل شارعاً كاملاً من منطقة باب الحديد (تبلغ مساحته حوالى 1200 متر مربّع)، ويتكوّن أعلاه من سلسلة متناسقة من القناطر التي تجمع جهتيه اليمنى واليسرى، يفصل بينهما ممرّ عريض، وهو من طبقتين. كما أنّه يتميّز بأنّه مقفل ومسقوف. علماً أنّ الخانات قديماً كانت تُعرف باحتوائها على نزل للمسافرين في الطبقة العلوية تمكّنهم من الاستراحة من أعباء السفر، في الوقت الذي كانت فيه الطبقة السفلية تعجّ بالأسواق.
الخان في عام 1974 بعدسة فرانسيس جالان

ازدهر «خان الخيّاطين» في العهد العثماني، وخصوصاً في القرن التاسع عشر، حيث كان عامل جذب للزبائن القادمين عبر البحر من المدن الأوروبية، فأصبح منصة لتصدير الأقمشة القادمة من حمص وحماه وحلب، كما استخدم لتصنيع الحرير الذي أضحت تجارته تشكل جزءاً كبيراً من اقتصاد متصرفية جبل لبنان. أصبح المزارعون القرويون في جبل لبنان يقصدونه بعد استخراج الحرير ليخيطونه حسب الطلب أو بالأشكال التي تعبّر عن أزياء المنطقة في مختلف الحقبات، تمهيداً لبيعه لاحقاً في أسواق الخان.
في تلك الفترة، كان الخان الذي عُرف أيضاً باسم «خان الحرير»، يعدّ من أهم نقاط خط التجارة العالمية، نظراً إلى جودة بضائعه والطلب الكبير على الحرير الجبلي اللبناني ومنتجاته، فضلاً عن قربه من البحر. فكان من الطبيعي أن يكون محصّناً يصعب الدخول إليه، وأن تكون المنتجات غالية الثمن في مكان بعيد عن متناول الزوّار.
أرخى تغيّر طرق صناعة الألبسة بظلاله على الخان، إذ احتلت الألبسة الجاهزة أسواقه في وقت لاحق، بسبب سهولة صنعها وانخفاض كلفتها. ومع سنين الحرب اللبنانية، تحوّل «خان الخيّاطين»، في ظلّ الإهمال الكبير، من نقطة حيوية ومهمّة إلى مجرّد جزء بسيط من سوق طرابلس القديم، يختصّ اليوم ببيع الأزياء الفولكلورية المتمثّلة في الطربوش، العباءة الرجالية، القفطان الرجالي، الشروال، القنباز والثوب النسائي المطّرز. ولا يقتصر شراء هذه القطع على السيّاح فقط، بل تسعى الفرق الفنية إلى شرائها.
لقطة حديثة بعدسة جمال ساعاتي

مع تبدّل وظيفة الخان من تجاري إلى سياحي ينشط بشكل خجول في المواسم، بات أكثر انفتاحاً على الزوّار تزامناً مع سهولة عرض البضائع بطريقة جذّابة، وخصوصاً مع عملية الترميم التي خضع لها عام 1992 بتمويل ألماني وطالتها انتقادات واسعة. ناهيك بأنّها استغرقت وقتاً طويلاً، جاءت نتيجتها غير منسجمة مع السياق التاريخي والثقافي للمكان، وأسهمت في ترسيخ الطابع التجاري ــ السياحي فقط.
اليوم، أضحى «خان الخيّاطين»، ككلّ خانات السوق القديم، كنزاً لا يمكن للمارّين فيه تصوّر أهميّته التاريخية والمراحل البارزة التي شهد عليها. إذ أصبح أشبه بأي من أقسام سوق طرابلس، أو أي سوق حديث كـ «الأحد» أو «صبرا». أما المساحات التي كانت غرف إقامة للمسافرين، فأمست مستودعات يستأجرها سكان المدينة والتجّار.
«خان الخيّاطين» صورة مصغّرة عن حجم الإهمال الممنهج الذي يطال «الفيحاء» وأبناءها، منذ قيام الجمهورية اللبنانية. لكن قد يكون لذلك جانب إيجابي يتمثّل في حماية المدينة من الانسلاخ عن هويتها، ومنع استبدال معالمها التراثية بموقف سيّارات ربّما أو مركز تجاري كبير أشبه بمدينة أشباح على الطريقة البيروتية.