في قرية متوارية خلف أحد جبال لبنان، يبني المخرج اللبناني كارلوس شاهين (1959)، فيلمه الروائي الأول «أرض الوهم» الذي عُرض قبل أيام ضمن «مهرجان عمّان السينمائي – أول فيلم» (يُطرح قريباً في الصالات اللبنانية). يبنيه بسطح هادئ ومخادع، تدحضه توترات متصاعدة من الكبت والغضب والكآبة والطائفية والإقطاعية على خلفية «أحداث 1958». بنبرة تتأرجح بين الدراما والتحليل النفسي والسياسي والديني والإثارة الريفية، يتعمّق شاهين في معتقداتنا الموروثة من خلال قصص أشخاص عاديين يواجهون خيارات أخلاقية مؤلمة في خضم حرب تمهّد للانفجار الكبير.يعكس «أرض الوهم» بشكل مثالي شاعرية مخرجه الخاصة. يكتب شاهين قصصاً بسيطة بحيث يترك مساحةً واسعةً للتعمق في المواضيع التي ينوي التعامل معها من خلال الكلمات والحوارات. البنية الداعمة للسرد ليست الحبكة، بل الأشخاص والمكان والزمان الذين يعرفهم شاهين جيداً إلى جانب العلاقات التي تخلقها هذه الشخصيات في ما بينها. يكبت شاهين المشاعر من دون تكبيلها لإعطائها الحرية لسرد التوتر، بينما يولي اهتماماً خاصاً بالقضايا والظروف السياسية والتاريخية المحيطة آنذاك ببلاده.
يقول لنا: «أنا متعلق جداً بلبنان، ولو أنني أعيش في فرنسا، أحب لبنان ولكن لديّ مشكلة كبيرة معه، هي مشكلة ثقافية. الشعب اللبناني والعربي تأذّى كثيراً ليجد نفسه ويجد معنى لحياته. بالنسبة إليّ، أريد أن احكي عن لبنان، لأنّه في خيالي ولا يمكنني إلا التحدث عنه. بالطبع، يريد الجميع التحدث عن لبنان والوضع السياسي، لكن بالنسبة إليّ كي أتكلم عن الوضع السياسي، يجب أن أتحدّث عن عام 1958، لأنها مهمة جداً. مثلاً، قلّة تتذكّر أنّ أول اجتياح أميركي للشرق الأوسط، كان على شواطئ بيروت. وقتها اعتقدنا أننا فزنا، ولبنان سيصبح أجمل بلد في العالم، وهذا ما تربينا عليه كل الوقت، وجاءت السنوات الخمس عشرة التي تلت وكان لبنان «أجمل بلد في العالم»، لكن انفجر كل شيء في عام 1975. أردت التحدث عن هذه الشرارة، شرارة 1985 التي انتهت بسرعة، واعتقدنا بأنّ الكابوس انتهى، ولكنه لم ينته، بل إنّه بدأ».
يعيدنا شاهين إلى صيف 1958، وتحديداً إلى قرية مسيحية. هناك تعيش عائلة الإقطاعي الشيخ داوود (أحمد قعبور)، وزوجته أوجيني (كريستين شويري) وبناتهما الثلاث. الكبرى ليلى (ماريلين نعمان بأداء متميز في إطلالتها الأولى على الشاشة الكبيرة) المتزوجة من بطرس (طلال الجردي) ولديهما طفل اسمه تشارلز (أنطوان مرعب حرب). الوسطى إيفا (جوي حلاق)، التي يحاول والداها تزويجها، والصغرى المتمردة ندى (روبس رمضان). ديموغرافياً، يشكّل المسيحيّون في القرية النسبة الأكبر في مقابل مسلميها المستائين من الطريقة التي يُعاملون بها. حتى إنّ بعضهم لا يتردد في مغادرتها. في هذا السياق السياسي والتاريخي، يصل الفرنسي الدكتور رينيه (بيار روشفور)، ووالدته إيلين (ناتالي باي) لقضاء إجازة في القرية بينما «أحداث 1958» تلقي بثقلها على القرية وسكّانها. وصول رينيه سيوقظ شيئاً ما داخل ليلى، لتلقي بنفسها عليه كخشبة خلاص، كنافذة جديدة لمشاعر لا تعرفها، في بلد بدأت شرارة الحرب بالظهور فيه.
في «أرض الوهم»، يخطو شاهين خطوة إلى الأمام في ما يتعلق برصانته الأسلوبية الجمالية التي لاحظناها في ثلاثيته العائلية القصيرة والحميمة عن الأب والأم والابن («طريق الشمال» (2008)، و«تشيخوف في بيروت» (2016)، «ابن القمرجي» (2018)) ليستخدمها هنا ضمن حبكة حول جروح الماضي المفتوحة، من خلال مزج تاريخ لبنان بذكريات ماضيه الطفولية الشخصية. فيلم سياسي، يتحدث عن الأسرة والجنس والحرب والبحث عن الهوية والتاريخ والموت، ولكن قبل أي شيء عن المرأة كركيزة تقوم عليها المجتمعات بأكملها.
كل لقطة في الفيلم مؤطرة وضرورية، ليس هناك مشهد عديم الفائدة أو طويل جداً. تتسلّل مشاهد شاهين بسلاسة، مليئة بالنوستالجيا، ولكنها في الوقت نفسه تحمل الكثير من الثقل النفسي لشخصياته. يعزز شاهين فيلمه بمشاهد من الأرشيف (أرشيف لبنان عام 1958، «أحداث بيروت»)، يرينا الناس في ذلك الوقت، والدبابات التي دخلت البلاد وهلّلت لها العباد. لا تترك الموسيقى أحداث الفيلم، فهي جزء أساسي في عملية السرد، تتكرّر بشكل هاجسي، تمرّر شعوراً بالخوف. هذه الإيقاعات الموسيقية تترجم هذا المناخ الثقيل الذي يسبق كارثة متوقعة. بين الأحداث والأرشيف وعيون تشارلز، يغمرنا شاهين بأحاسيس لا تفارقنا. بشكل غير مباشر، يقول كل شيء. الحرب الموجودة ليست مهمة بالنسبة إليه بقدر آثارها على الشخصيات. وما يدور داخل النفوس، لا يترجمه شاهين إلى كلمات، فالخوف والقلق والحب والشهوة واضحة في عيون كل مَن على الشاشة.
يشبه الفيلم ومشاهده إلى حد كبير الدراما المسرحية حيث الحوارات الطويلة، والأسرار الملعونة، والشخصيات الهشّة في محيط عائلي ووسط مناظر خلابة. لكن هنا يستحيل كل شيء سجناً للفتيات، سجن لا يمكن الفرار منه. يقول شاهين: «المسرح ساعدني كثيراً، في بعض الأوقات تعاملت مع الفيلم كأنني أخرج عملاً مسرحياً. قبل بدء التصوير، كنا نقرأ النصّ كثيراً ونغيّر بعض الحوارات، وعندما يكون الجميع مرتاحاً وجاهزاً، نبدأ بالتصوير»
مشكلات شخصيات الفيلم هي نتيجة الهروب من البوح بأي حقيقة بين الأفراد. إنه خط سردي متماشٍ مع التطور الدرامي على وقع الطبيعة. هذه الطبيعة الخطرة محور الفيلم، لا بل إنها الفيلم بحد ذاته. هناك في الوادي هيكل اجتماعي قائم ولا يزال. وموهبة شاهين أنه قدم حكايته في هذه الطبيعة الساحرة التي يسكنها مجتمع محافظ، ومن خلال ذلك، ذمّ شاهين العادات والنظام الاجتماعي القائم والقوة الخفية للسلطة الأبوية والذكوريّة. كاميرا شاهين حنونة وقاسية في آن، يصوّر شخصياته الأنثوية برقة وحب، بينما يتبع القسوة قليلاً مع شخصياته الذكورية، ولكن من دون أن يحكم عليها، فهي أيضاً ضحايا هذا المجتمع. نهج الفيلم صادق إزاء الطريقة التي يميل بها البشر لبناء واقع من الأوهام والرغبات والأكاذيب البيضاء والذاكرة الانتقائية، فشخصيات الفيلم تشبه لبنان في ذلك الوقت أو حتى اليوم. وفي هذا المناخ، يظهر الطفل تشارلز، الذي يحاول أن يفهم ما يحدث. مع كل الأحداث في الفيلم، يعيدنا شاهين إلى النظرة الطفولية للأشياء، ليظهر بعض البراءة في مجتمع على وشك الانفجار. عن مدى تشكيل هويته الدينية الحضارية وعيه كإنسان ومخرج، يعلّق شاهين: «هذا الفيلم نابع من عالم الطفولة، ومن العالم الثقافي والديني. الشخص لا يمكن أن يغيّر تاريخه. أنا مسيحي تربيت بين طرابلس ووادي قاديشا في الصيف، ماروني من الجبل. الموارنة كانوا فلاحين، هذا تاريخي وثقافتي لا يمكن أن أغيّرهما، هذه الهوية العميقة داخل الإنسان هي الوحيدة التي تكون بمثابة وعاء كبير، أستطيع أن أسحب منها الأشياء لأخبر الناس قصصي ولأصنع السينما. عنوان الفيلم في الفرنسية هو «La nuit du verre d’eau»، وهو من وجهة نظر الولد، كأنّ الطفل يتذكر. أنا المخرج وأنا رجل أصنع بورتريهاً لامرأة، لكن قبل أن أصبح رجلاً، كنت ولداً صغيراً. بالنسبة إليّ، وجهة نظر الطفل إلى هذه الأحداث هي وجهة نظر المخرج والكاتب والمشاهد أيضاً. فهو الذي يأخذنا إلى الأحداث، ونعيش معه مأساته التي لا يفهم منها شيئاً ولكنها حاضره، وسوف تكون مستقبله في عام 1975».
يعيدنا إلى صيف 1958، وتحديداً إلى قرية مسيحية، حيث تعيش عائلة إقطاعية


الشريط خلطة بين الدراما والإثارة والسياسة، في إطار حسي وشاعري. يتفحص شاهين العلاقة الزوجية التقليدية التي تواجه التقلبات، ويعصر كل هذا لتصبح القصة كئيبة وعميقة إلى حد ما. يُظهر ما يريد قوله بطريقة غير مباشرة، حتى «الحب» والجنس يظهرهما بطريقة فيها الكثير من الشهوة، لأنّ الشخصيات مدركة تماماً لبيئتها، ملتزمة بالثوب المحتشم وبالطاعة العمياء للمجتمع والتقاليد. يفهم شاهين جيداً السياق الحضاري المعقد والتقليدي المشفر للعواطف التي تسعى إلى الاستقلال، العواطف التي لا يمكن كبحها، لكنها مهزومة مسبقاً في أي معركة قد تخوضها عكس التيار. يقول شاهين: «قد يميل بعضهم لاتخاذ المنحى النسوي في الفيلم وترك المنحى السياسي والاجتماعي، لأن في لبنان كما في كل البلاد العربية، الشعور الديني قوي جداً، وفي لبنان يميلون إلى سماع كلمة «الأب» وهناك الكثير من رجال السياسة والدين الذين يلعبون هذا الدور. في الفيلم أتحدّث عن المجتمع الذي يريد أن يحاول التخلّص من هذه النظرة الذكورية، وهذا صعب حتى إلى الآن. اليوم، أشعرهم فيلم «باربي» بالخوف، فإذا كانوا يخافون من فيلم، لا أتفاجأ من الخوف من المرأة وكرهها لأنّها تريد أن تخرج من الدور الذي أعطاها إياه الرجل. المجتمع هشّ إلى هذه الدرجة، وأنا أكيد أن البعض سيأخذ الفيلم بمنحى سطحي وينسى كل شيء قلته عن المجتمع والسياسة والحرب والرجل الضحية».
أسهل شيء أن نتحدث عن الفيلم وعن ليلى وما فعلته والقول بأنها ناشز وأنّ كارلوس شاهين مخرج نخبوي، بعيد عن الواقع المعاش وانشغالات المجتمع وقضاياه. ليلى كما لبنان، تصرّ على سلوك درب غامض، تمشي قليلاً، تسأل، تغضب، تبحث عن تفسيرات، تهرب، تتفاجأ، تركض، تنتظر، ثم تعود إلى المشي والركض من جديد. كأن شاهين يحاول وصف تاريخ لبنان في شخصياته النسائية. المسار المشوّش أصبح محور حياة ليلى التي تواصل الركض خلف الحقيقة، والسعي وراء شيء ما، ثم لا تلبث أن تختبئ أو تختفي. يلحق شاهين بليلى، عبر قصتها في خصوصيات المجتمع، فيدخل في متاهة تحثّنا على طرح أسئلة كبيرة عن لبنان وعن ليلى، بينما لا يمنحنا إلا إجابات صغيرة. الجُمل تتقطع فجأة والتاريخ يعيد نفسه، وما يحدث أكبر من الإجابة. يختم شاهين: «أنا متشائم جداً من البلد. منذ انفجار المرفأ والانتفاضة الشعبية. انكسر شيء ما في داخلي. لذلك يجب أن نتعلم ونعرف تاريخنا جيداً لكيلا نكرر الأخطاء كل يوم. حرب 1958 لم تكن معقدة، ولم يكُن الفلسطينيون مشكلة أصلاً في لبنان. حرب 1958 تحكي أكثر عن لبنان وقصته، عن سكان طرابلس مثلاً الذين لا يريدون أن يكونوا في بلد جديد رئيس جمهوريته مسيحي ماروني. الجميع لم يكونوا متفقين. هذه الحرب واضحة بالنسبة إليّ، هناك جهة تريد الذهاب نحو الغرب وجهة تريد الذهاب نجو الشرق، بهذه البساطة أنا أراها. بعد دخول الأميركيّين، رضخ الجميع وبدأ التحضير للحرب الأكبر والأقوى، ولكن هناك لغز بالنسبة إليّ: لماذا أجبروا لبنان على التوقيع على اتفاق القاهرة؟ عندما وُقّع هذا الاتفاق، فهم رئيس الجمهورية آنذاك شارل حلو أن لبنان انتهى».

* «أرض الوهم» قريباً في الصالات اللبنانية