أسبوع سياسي وإعلامي ساخن عاشه المصريون منذ إعلان السلطات في زامبيا عن توقيف طائرة خاصّة قدمت من القاهرة في 14 آب (أغسطس) الحالي، وهبطت في «مطار كينث كاوندا الدولي»، وعلى متنها أكثر من خمسة ملايين دولار أميركي ومجموعة من الأسلحة وكمية من المعادن، بالإضافة إلى عشرة أشخاص من بينهم ستة مصريين. فور شيوع النبأ، أُرغم على الفور عدد من المواقع الإخبارية، من بينها «مصراوي» و«المصري اليوم»، على حذفه على الرغم من أنّه لم يكن حينها يحمل معلومات إلا عن عملية التوقيف وحمولتها من دون ذكر أسماء.هكذا، بدأت حسابات شخصية لوجوه إعلامية محسوبة على النظام المصري (لجان إلكترونية تحمل أسماء مستخدمي مواقع التواصل) في طرح سيناريوات عدّة لإبعاد الشُبهة عن سلطات «مطار القاهرة الدولي». السيناريو الأوّل يفيد بأنّ الطائرة هبطت في مطار آخر كترانزيت، قبل تحرّكها مجدداً نحو العاصمة الزامبية، فيما يشير آخر إلى أنّ الطائرة هبطت ترانزيت في القاهرة وأنّ سلطات المطار المصري لا يحق لها التفتيش طبقاً للقوانين الدولية، أي إنّ حمولتها جاءت من بلد آخر وما العاصمة المصرية إلا محطة. لكن إذا كان هذا صحيحاً، فمن أين جاء المصريون الستة؟ برّر متبنّو هذا السيناريو الأمر بأنّ هؤلاء من طاقم الضيافة!

(عماد حجاج ــ الأردن/ Cartoon Movement)

مَن صاغوا هذه الأكاذيب سريعاً، عوّلوا ربّما على أنّ الجانب الزامبي لن يفصح عن باقي المعلومات، لكن ما حدث كان غير متوقع. إذ «سُرّبت» أسماء خمسة من المصريين الستة الذين كانوا على متن الطائرة، منهم اثنان يعملان في صفوف الجيش المصري، والبقية تجّار ذهب ورجال أعمال ليسوا فوق مستوى الشبهات. مهمّة «التسريب»، تولّاها طرف لم تتوقّعه «لجان النظام»، وهي صفحات التحقق من المعلومات، أبرزها «متصدقش» و«صحيح مصر»، ومن خلفها صفحات داعمة تُعيد نشر المعلومات، من بينها «رصد» (منصة إعلامية إخوانية) و«مدى مصر» و«الموقف المصري» (معارضة).
أصيبت وجوه النظام بحالة من الفزع، إذ أكملت ماكينة التكهّنات الصورة، رابطة بين الأسماء وبين شخصيات بارزة في الدائرة المقربة من الرئيس. وبات الخروج من الفخّ متعلّقاً بمحاصرة تلك الصفحات. في هذا السياق، عمد المحسوبون على السيسي إلى ربط الصفحات «المشاغبة» بتنظيم الإخوان المسلمين متدنّي الشعبية في مصر. كما طالبت أبواق رسمية هذه الصفحات بالإفصاح عن محرّريها وعن مصادر تمويلها كنوع من «الشفافية»، وهو ما واجهه مؤيدو هذه المنصات بالسخرية، معتبرين أنّ أي إفصاح يعني «التنكيل»... لتصل الذروة الدرامية إلى مداها بنجاح قوات الأمن في الوصول إلى كريم أسعد، أحد الصحافيين العاملين في منصة «متصدقش»، واعتقاله من داخل منزله والولوج إلى الصفحة من حسابه الشخصي وحذف منشورَيْن عن الطائرة، وسط اتهامات بتنسيق الصفحة مع أجهزة معادية بدليل حصول محرريها على جوازات سفر بعض الموقوفين في زامبيا.
فشلت «لجان السيسي» في مواجهة منصات التحقّق من المعلومات


أدى اعتقال كريم أسعد إلى توقّف عمل «متصدقش» فيما التزمت «صحيح مصر» الصمت. بعد القبض على أسعد، غصّت صفحات الصحافيين المصريين بعبارات الاستهجان، فيما أعرب المحسوبون على النظام عن تأييدهم القرار. لكن المفاجأة الأكبر كانت إخلاء سبيله بعد 48 ساعة فقط، وهي المدة التي أكدت عدم قدرة النظام على تحمّل ضغوط استمرار الجدل حول هذه القضية التي كانت لتموت سريعاً بعد نشر السيناريوات الملفقة يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيَيْن، لولا منصات التحقق من المعلومات التي ستستحيل صداعاً في رأس النظام خلال فترة الانتخابات المرتقبة، إلا لو طال منتسبيها المزيد من الاعتقالات والتوقيف التعسفي.
وسط تفاصيل الأسبوع الساخن، لم يعد هناك مجال للشك في أنّ التغييرات الأخيرة في قيادات شركة «المتحدة للخدمات الإعلامية» (التابعة للاستخبارات المصرية)، وخصوصاً الصحافية منها، جاءت لبسط المزيد من السيطرة على مواقع صحافية كبرى. لا بل حتّى الصحف القومية القديمة غير المملوكة رسمياً لجهات تابعة للنظام، لم تكتب حرفاً عن الموضوع لا من قريب ولا من بعيد. تعتيم ظنّه رجال السيسي بأنّه كامل وشامل، قبل أن يكون لكريم أسعد ورفاقه رأي آخر!



دومة «برّة»... شكراً زامبيا


فوجئ مؤيدو الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، قبل معارضيه، بقرار غير متوقّع متمثّل في إخلاء سبيل الناشط السياسي، أحمد دومة (الصورة)، المحكوم عليه بالسجن المؤبّد في قضية حرق المجمّع العلمي المصري، على الرغم من رفض السلطات مراراً وضع اسمه ضمن قوائم المعفو عنهم بقرار رئاسي. جاء العفو المفاجئ ليؤكد على حجم الأزمة التي يعيشها النظام بسبب تداول المصريين لمعلومات وأسماء الشخصيات الموقوفين في زامبيا بسبب قضية الطائرة الخاصة. وفور الإفراج عن دومة، تراجع الاهتمام بالطائرة وبات واضحاً أنّ الحيلة قد نجحت: جماعة ترحّب وسعيدة، وأخرى تندّد وتلوم النظام لأنّه أخلى سبيل «أحد المخرّبين»، كما وصفه إعلام السيسي مراراً وتكراراً. ووسط كلّ هذا، خرجت طرفة تطالب دومة بالذهاب إلى سفارة زامبيا في القاهرة وتوجيه الشكر، فلولا توقيف السلطات للطائرة لما كان قد رأى الشمس أبداً.