تبنّى سيمون كينبرغ وديفيد ويل صانعا مسلسل Invasion أو «الغزو» (2021)، عنواناً طموحاً فضفاضاً عريضاً لحكايتهم عن غزو فضائي يستهدف كوكب الأرض (يعرض على «أبل. تي. في. بلس». عنوان أثار شهيّة كثيرين لمتابعة قصّة ملحميّة وإن مكررة، في نطاق ثيمة هوليوود المعتادة حول تولّي الأميركيين توحيد البشرية في مواجهة عدوان مخلوقات فضائيّة لا تعترف بالتصورات المألوفة لنا ــــ نحن سكان الأرض ــــ بشأن الحدود أو سيادة الدول. وما زاد مستوى التوقعات من وراء هذا العمل تلك الميزانية الهائلة التي رُصدت لتنفيذ تصوير عشر حلقات عبر القارات: اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة (والمغرب للمشاهد المتعلّقة ببقية العالم المتخلّف خارج الثالوث الرأسمالي)، وتجاوزت الـ 200 مليون دولار (للمقارنة فيلم «أوبنهايمر» كلّف 100 مليون دولار)، كما قائمة معولمة من الممثلين لتقديم شخصيّات من بيئات وخلفيّات مختلفة: رجل شرطة أميركي أبيض على وشك التقاعد، زوجة ذات أصول شرقية مخدوعة تكتشف خيانة زوجها (المسلم الملتحي لأغراض استكمال الصورة النمطيّة) مع أميركية شقراء، وجندي أميركي أسود – لزوم استكمال التشكيلة - من القوة الأميركيّة في أفغانستان مصاب بخيبة أمل متجددة، وطفل بريطاني ذو وجه حزين يعاني من الصرع، ويابانية مثليّة خبيرة في الاتصالات – أيضاً لزوم استكمال التشكيلة - تواجه الفقد، إلى جانب عدد هائل من الكومبارس والممثلين الثانويين لدعم قصص تدور في أماكن متباعدة حول العالم. المقاطع الدعائيّة التي بثتها «أبل» وتضمنت زخات من الشهب، نزيفاً جماعياً من الأنف، رواد فضاء يابانيين، أسلحة متطورة، جنوداً أميركيين وبريطانيين ومشاهد من الصحراء المترامية والجمال، دفعت المستهلكين إلى الافتراض بأن هذه الحكاية ـــ وإن اتبعت الكليشيه الأميركي التقليدي لأعمال الغزوات الفضائيّة ـــ ستكون على الأقل مثيرة في تسارع أحداثها، معقّدة في تشابك أحداثها، ومتعة بصرية خالصة. لكن كل هذه التوقعات والتلميحات خابت إلى حدّ كبير.

من الموسم الأول من «الغزو»

الحلقة الأولى تمنح مشاهدها إحساساً مخادعاً بأن توقعاتنا ستتحقق. لكن الغزو يتأخر في الوصول على نحو مرهق، بحيث يكتفي النصف الأوّل من الموسم بعرض غرائبيّات متفرّقة حول العالم من دون أي ذكر لهجوم فضائيّ، بينما يتعقّب بدلاً من ذلك حفنةً من خيوط السرد المتوازية تبدأ بدون تقاطعات وفي جهات متباعدة حول العالم، قبل أن ينتهي بها الأمر متصلة بشكل فضفاض ومفتعل إلى حد كبير: بدوي في قلب الصحراء العربيّة (في اليمن وفق المسلسل) يلحظ ظاهرة غريبة في الرمال تتسبّب في هرب إبله. وبدل من أن يهرب منها يحاول لمسها فتقضي عليه من دون تفسير مقنع. هناك صبي صغير في لندن (يلعب دوره بيلي بارات) عرضة للنوبات التي قد تكون مرتبطة بالغزو الفضائي من دون تفسير مقنع. وينتهي شرطي أميركي في أوكلاهوما (سام نيل) يحتفل بآخر أيّامه في وظيفة استمرت لـ45 عاماً، ميتاً في قلب دائرة مفرغة داخل حقل ذرة هائل من دون تفسير مقنع. عائلة في لونغ آيلاند تنحدر من أصول شرقيّة (تلعب دور الزوجة الممثلة الإيرانية الفرنسية غولشيفته فرحاني ويقوم بدور زوجها فارس نصار من فلسطنييي الداخل) تعصف بها الخيانة الزوجية، ولكن يصادف أيضاً أن يكون لدى ابنهما الصغير قطعة من معدن غريب يتبين أنّها قادرة على إهلاك الغزاة وإزالة مخلفاتهم من دون تفسير مقنع. ميتسوكي مهندسة اتصالات فضائية من اليابان (شيولي كوتسانا) يبدو أنها الوحيدة في الكوكب القادرة على التواصل مع الغزاة من دون تفسير مقنع، والعريف تريفانتي جندي أميركي أسود (شامير أندرسون) يفقد وحدته وينقطع عن بقية القوات الأميركيّة في أفغانستان بعد أن يتبيّن أنه هجوم فضائيّ من دون تفسير مقنع أيضاً.
يورّطنا العمل بهذه الشخصيات الفرديّة، ومردّ ذلك في الغالب طول الوقت الذي نقضيه معها بينما نترقب الغزو الفضائي العتيد. وهو ما يسمح لها بأن تكتسب نوعاً من العمق عبر تعثرها الدائم بالمصاعب المتلاحقة وإثارة التناقضات بين أدوارها التي تنقلب إلى النقيض بسبب الغزو: الطفل الخجول الذي يتعرّض للتنمر يصبح قائداً، والمستقرون انقلبوا لاجئين في بلادهم، وجندي الغزو تحوّل ضحيةً لغزو أكبر، والعلاقة السريّة الآثمة في المجتمع الياباني البطركيّ صارت أمل البشرية الوحيد بالتواصل مع الغزاة وهكذا، من دون أن يساعد كل ذلك الحبكة الرئيسة على التقدّم أو التعقّد.
يكمن العزاء في المؤثرات الخاصة والمشاهد الخارجيّة وألوان التصوير الكثيفة الظلال


جميع الشخصيات في العمل لا تظهر عداء خاصاً للغزاة، لكنّها تقوم بأعمال بطوليّة خارقة للتعامل مع مصاعب الحياة مع البشر الآخرين، تأخذها بشكل معجز نحو المواجهة الحتمية المتأخرة مع الفضائيين. هذه الخوارق تستهلك وقت المشاهد، وتحول دون الإجابة لا على التساؤلات الكبرى من طراز: من هم هؤلاء الغزاة؟ وبم يختلفون عنا؟ وهل يمكن بالفعل إيجاد لغة للتفاهم معهم؟ وكيف ستكون استجابة البشر على تعدد دولهم العظمى الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان (العالم عند الأميركي لا وجود فيه بالطبع لروسيا أو الصين أو البرازيل مثلاً)؟ ولا حتى عن التساؤلات الصغرى التي تطرحها الأحداث، مثل: ما علاقة الغزو بنزيف أنوف أطفال صف المدرسة التي يرتادها ابن الزوجين الشرقيَّي الأصول فيما هو الوحيد الذي لا يُصاب بذلك النزف؟ أو هل هناك علاقة بين سقوط الشهب بإصابة الصبي البريطاني بنوبة صرع؟.
وإن امتلك المشاهد الوقت والصبر للوصول إلى النهاية، فسيجد أن ذلك المنظور الفردي الصغير للشخصيات والقضايا المفرطة في تفاصيلها المملّة هو زاوية النظر الوحيدة الممكنة لحدث الغزو العالمي المتواري، حتى إنّه في وقت ما قد تبدأ بأن تدعو الربّ لأن يعجّل في إرسال أيّ غزاة كانوا، كي ينقذوا هؤلاء الأفراد التعساء من بؤسهم المتراكم. وعندما يهبط الفضائيون أخيراً من السماء، تنتهي المواجهة سريعاً بانتصار البشر بطريقة أقل ما يقال عنها بأنها لا تثير الإعجاب إطلاقاً، ويكون العزاء تلك المؤثرات الخاصة والمشاهد الخارجيّة وألوان التصوير الكثيفة الظلال التي تعطي المسلسل وهم الأهميّة والكثافة.
الموسم الثاني من الغزو يبدأ عرضه اليوم الأربعاء على «أبل. تي. في. بلس». سيكون عليه التعامل مع كل هذه الخيبات، وتقديم إجابات عن التساؤلات التي تركها الموسم الأول من دون تعليق أو إجابة. قد يغفر المشاهدون كل ذلك البطء، والتفاصيل عديمة الفائدة، وغياب الإقناع ويعتبرون أن الحلقات العشر كانت بمثابة مقدّمة لملحمة مقبلة في حال نجح فريق العمل في توظيف خيوط السرد التائهة في خدمة حكاية ترتقي إلى مستوى معقّد وأكثر منطقيّة من مجرّد أسطورة توحيد البشر تحت القيادة الأميركيّة للتعاون في مكافحة الغزاة. ألا يدرك صانعو الأفلام والمسلسلات في هوليوود أن الغزاة الحقيقيين الذين يشكلون الخطر الدائم على مستقبل البشرية والكوكب هم الأميركيون تحديداً، وأن شعوب العالم حين تتطلع بقلق نحو السماء، فإنها تتوجس من طائراتهم ودروناتهم القاتلة حصراً؟ وإلا سيكون هذا الموسم الجديد، موسماً أخيراً أيضاً.

* Invasion على Apple TV+