القاهرة | للمرّة الأولى، كان الموعد يوم الخميس الماضي مع مواجهة مباشرة بين الرياض والقاهرة على الصعيد الفنّي، تمثّلت في «ليلة الدموع» و«مهرجان القاهرة للدراما». أقيم الحدث الأوّل في جدة جامعاً عدداً من الفنانين العرب المشهورين بأغنياتهم الحزينة، فيما احتضنت العلمين الجديدة الحدث الثاني الذي استقطب أكثر من 200 شخصية فنية، بعضهم لم ينجح في دخول قاعة الاحتفال بسبب الازدحام.وفي سابقة، خرج القائمون على «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» (تابعة للاستخبارات المصرية) من المواجهة منتصرين، بسبب نجاحهم في جذب ملايين المصريين إلى شاشة dmc وليس «mbc مصر» التي كانت تعرض «ليلة الدموع». علماً أنّه يبدو أنّ ما جرى سيكون جزءاً من سلسلة لن تنتهي قريباً من الصدامات التي تحدث بين مصر والسعودية، ليس على مستوى الفن فحسب، بل أيضاً الرياضي، وفي الخلفية طبعاً حرب السياسة والاقتصاد!
محاولة فهم العلاقة المعقدة بين القاهرة والرياض على كل المستويات وتأثيرها على الساحة الفنية، تحتّم اللجوء إلى «الفلاش باك» لرصد المراحل التي مرّت بها، ونقطة انطلاقها المتمثّلة في ظهور شخصية تركي آل الشيخ، رئيس هيئة الترفيه السعودية حالياً.. هو الذي يُطلق عليه محبّوه لقب «معالي المستشار»، فيما يدلّله كبار النجوم بلقب «أبو ناصر». يمكن تسمية المرحلة الأولى بمرحلة المرور إلى المجتمع المصري بحثاً عن أضوائه. كان ذلك في الربع الأخير من عام 2017، عندما سُمح لتركي آل الشيخ بتمويل الحملة الانتخابية لمحمود الخطيب لرئاسة «النادي الأهلي»، بعدها تمت مكافأة «أبو ناصر» بتولّيه الرئاسة الشرفية للنادي. ظن الجميع أنّ الرجل سيكتفي بهذا المنصب الكبير ويفرح بالمسمّى الرفيع، لكنّه بدأ التدخل في شؤون النادي الأكثر شعبيةً في مصر. وقتها، بدأت تتسرّب أقاويل عن أنّ رجال الرئيس عبد الفتاح السيسي يريدون مجاملة الرجل الذي ينفق ببذخ كلّما زار القاهرة، وأنّ ضغوطاً مورست على «النادي الأهلي» لقبول طلباته وتحقيق أحلامه. بدأ الصدام سريعاً وتمت تعبئة الجمهور ضدّ آل الشيخ الذي ووجه بهتافات نابية في إحدى المباريات، ليؤكد رد فعله على أنّ الشخصية الخليجية أو السعودية تغيّرت في الجيل الحالي، وهو ما لم يدركه السيسي ورجاله عندما وصفهم في بداية حكمه بأنّهم «عندهم فلوس زي الرز»، في تسريب شهير جعل المصريين يطلقون على تركي آل الشيخ لاحقاً لقب «الشوال»، أي الحاوية المصنوعة من القماش التي يُعبّأ فيها الأرز.
فاجأ «الشوال» الجميع وأسّس نادياً لينافس «الأهلي» ويخطف لاعبيه. حدث كل هذا ورجال النظام عاجزون عن مواجهته مباشرة، بل تردّد أنّهم يلبّون له كل طلباته. علماً أنّ آل شيخ في ذلك الحين، كان قد بدأ يشق مساره الفني كشاعر أغنيات وسيناريست ومنتج أفلام وغير ذلك... وترددت أخبار أشبه بالأساطير عن المجهود المبذول من أجل تلبية طلباته، منها حمل أحد المخرجين من موقع التصوير في القاهرة عبر طائرة خاصة إلى شرم الشيخ في جنوب سيناء لأنّ «أبا ناصر» أراد رؤيته على الفور. وفي غضون ذلك، وقعت أوّل أزمة بينه وبين المغنية آمال ماهر التي تردّد بشكل غير رسمي زواجه منها، ثم رفضها الاستمرار، فتعامل معها بعنف. ووصلت الرغبة في إرضائه إلى حد حجب المواقع التي نشرت خبر الخلاف، فيما ظلّ المصريون مهتمّين، حتى أشهر قليلة ماضية، بمصير ماهر التي لم تظهر علناً إلا مرّات قليلة، آخرها في حفلة تم تنظيمها استفزازاً لـ «أبي ناصر»، بدليل أنّها لم تظهر مطلقاً من بعدها.
انتهت هذه المرحلة بخروج تركي آل الشيخ من سوق الرياضة وتوليه رئاسة «هيئة الترفيه» في المملكة، ليبدأ بتغيير قواعد اللعبة عام 2019 مستفيداً من تجربة رئاسة «الأهلي» الشرفية وما جرى بعدها، ومن ثمّ يتوقّف عن زيارة مصر إلا نادراً، وينقل اللعب إلى الأراضي السعودية لتحمل هذه المرحلة عنوان «من مصر إلى السعودية» وليس العكس. أطلق «موسم الرياض» بالتزامن مع إحياء صناعة السينما في السعودية، وبدأ بالحفلات الغنائية لأنّها الأسهل تنظيماً، ثم المسرحيات التي لا تُعدّ ولا تحصى. وبات السؤال في القاهرة: «مين اللي لسّة مارحش السعودية؟». وفي هذا السياق، قال أحد النجوم مبرّراً الإقبال الشديد على تلك العروض إنّ أجر مسرحية واحدة تُعرض لأيام في الرياض بعد بروفات لا تزيد عن أسبوعين، يوازي أجر سنة كاملة في مصر. تزامن ذلك طبعاً مع التخفيضات المستمرة في الأجور في مسلسلات المحروسة، نظراً إلى احتكار «الشركة المتحدة» لمعظم السوق. وبالتالي، مَنْ يرفض خفض أجره سيجلس في البيت. لذلك، هرعت غالبية الرافضين للوضع إلى مسرحيات الرياض، من دون سؤال عن المستوى الفني والرسالة التي تقدّمها هذه الأعمال. وحتى المحسوبون على «الشركة المتحدة»، أبدوا تململاً وخاضوا مفاوضات أفضت إلى أنّه «سيبونا نشتغل هناك ولن نطالب بزيادة أجورنا هنا». معادلة كشفت أنّ الأزمة برمتها من البداية، مرتبطة برغبة القائمين على الساحة الإعلامية والفنية في مصر بتحقيق مكاسب من صناعة الفن والإعلام، وعدم ترك السوق ليعمل بمفرده من دون الحصول على نصيب. وعندما أدرك «أبو ناصر» اللعبة ونقل الكرة إلى ملعبه، بدأت عملية تعتيم غير معلنة، حيث مُنعت معظم الصحف المصرية من تغطية فعاليات «موسم الرياض». وكان المبرر الرسمي بأنّ أي تغطية يجب أن تكون مدفوعة، فيما عوقب صحافيون وإعلاميّون كثيرون لأنّهم قبلوا دعوات من تركي آل الشيخ، من دون الحصول على موافقة مسبقة. لكن حتى تلك المرحلة لم تستمر طويلاً، لتبدأ ثالثة بلغت ذروتها يوم الخميس الماضي، وهي المنافسة المعلنة.
أسهمت البرودة السياسية بين البلدين في إجبار المصريين على دخول المنافسة


استاء المصريون كثيراً من التطوّر السعودي في مقابل التراجع المصري الكبير. تراجع سببه الاحتكار والرقابة وفرض مواضيع معيّنة والنزول بسقف الأجور وغير ذلك من أمور، بدأ تطبيقها منذ عام 2017 وبلغت ذروتها بعد ضمّ الشبكات الأربع الكبرى تحت لواء «المتحدة» في ربيع عام 2019. كما أثارت مجاملات بعض النجوم المصريين للمملكة تحفّظ أهل المحروسة، وآخرها تغيير محمد الحلو لجملة «وعَمار يا اسكندرية» من أغنية مسلسل «زيزينيا» الشهيرة إلى «وعَمار يا سعودية». لم يعد هناك بد من الردّ على تركي آل الشيخ الذي انشغل بإقامة حفلات شبه يومية وتكريمات لرموز الفن المصري، بينما الوضع في المحروسة أقرب للبيات الشتوي والصيفي معاً. وهو ما ترافق مع برودة سياسية هي الأطول من نوعها بين عبد الفتاح السيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. ومن المهمّ هنا التأكيد على أنّ الدولة المصرية لم تعترض أبداً على تصرّفات «أبو ناصر» في مرحلة «النادي الأهلي» ثمّ «موسم الرياض»، خشية إفساد العلاقة مع ابن MBS. لهذا، حتى عندما بدأت المواجهة تشتعل في الأشهر الأخيرة، طُلب من أصوات إعلامية محسوبة على «المتحدة» توجيه الشكر للمملكة، وجاء تكريم اسم الشيخ صالح كامل في «مهرجان القاهرة للدراما» وتوجيه الرئيس التنفيذي لـ «المتحدة» عمرو الفقي الشكر العلني للسعوديين لاهتمامهم بالفن المصري، تأكيداً على أنّ المصريين غير قادرين على اتهام السعودية بسحب البساط من مصر فنياً أو رياضياً، وأنّ القصة باختصار هي أنّ رجال النظام ظنّوا مسؤول الملف الفني في المملكة صيداً سهلاً كشخصية الخليجي في الأفلام المصرية القديمة. لكنّ تركي فاجأ الجميع واستخدم مليارات الريالات للاستحواذ على مكانة مصر الفنية، فيما لم يجد النظام المصري بداً سوى دخول المنافسة من دون استيفاء لشروط الصمود. أمام الأموال السعودية، ربح مرّة وخسارة مراراً، ولا تزال الساحة مفتوحة على جولات أخرى بين جمهور سعودي مستمتع بطلب المزيد وجمهور مصري متحسّر ينتظر التعويض.