ما الذي يحصل في هذا البلد؟ قد يبدو السؤال مبهماً، لكنّه ليس اعتباطيّاً. هو لسان حال كثر من اللبنانيّين اليوم يزداد حضوراً منذ فترة. ما الذي يحصل حقّاً في بلد يعيش تحت وطأة أحد أسوأ الانهيارات في العالم، مع كلّ متفرّعاته من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية ومالية واجتماعية وغيرها من ويلات تطارد الشعب «المعتّر»؟ لماذا نسيان كلّ هذه الأزمات، والتركيز على قضايا لم تمثّل يوماً مشكلة وإطلاق حفلة مزايدات لمزيد من الانغلاق والتقوقع على مواقع التواصل الاجتماعي؟ لمصلحة مَن أخذ المجتمع اللبناني نحو مزيد من التشنّج والتعصب الأعمى؟ هل المطلوب الإجهاز على ما تبقّى من دور ثقافي للبنان، بعد القضاء على كلّ القطاعات المذكورة آنفاً؟ هل يقف هذا الدور حجر عثرة أمام اكتمال سقوط أحجار الدومينو تمهيداً للانهيار الشامل؟ ما هذا الجنون؟
(محمد نهاد علم الدين)

لا تهمّ أزمة الكهرباء التي لا يوحي أداء المعنيّين (من رأس الهرم) حيالها إلّا بأنّها مفتعلة. كذلك، لا تهمّ الموبقات التي وردت في تقرير التدقيق الجنائي ولا وضع عصيّ وزارة المال والمصرف المركزي في العجلة الاقتصادية. لا يهمّ تدمير القطاع التربوي والجامعة الوطنية وخصخصتهما. لا يهمّ ذهاب الطفلة نايا حنّا ضحيّة رصاص متفلّت أطلقه شخص همجي، ولا قبلها لين طالب والجرائم التي انتقمت من براءة الأطفال بالجملة في دور العناية التي يتبع معظمها للطوائف. لا يهمّ انعدام الأمن ولا التوتّرات في مخيّم عين الحلوة. لا يهمّ عدم انتخاب رئيس للجمهورية ولا شغور مناصب أساسية تسيّر أعمال الدولة. لا يهمّ فيضان الطرقات ولا انعدام السلامة عليها التي أدّت أيضاً إلى حادثة الكحّالة. لا تهمّ كلّ المحاولات المستمرّة لزرع الفتنة ولو بالقوّة. لا تهمّ محاولات العدوّ التجسّس إمّا عبر تجنيده عملاء في الداخل أو توكيل «اليونيفيل» القيام بالمهمّة، ولا الأنباء عن عودة «داعش» ونيّة الأميركيّين إشعال المنطقة مجدّداً.
كلّ ذلك لم يثر حملات افتراضية أو نيابية، فهو لا يؤثّر في نفوس ذوي العقول الصغيرة، وما أكثرهم يتغلغلون في مؤسّسات الدولة وبين الناس على حدّ سواء. أزعجهم فيديو عمره خمس سنوات، نُبش بخبث وتسبّب في إلقاء القبض على الكوميدي نور حجّار (قبل إطلاق سراحه مساء الثلاثاء). «قاموا القيامة» لمحاولة منع عرض فيلم «باربي» الهوليوودي السخيف الذي لا يختلف في شيء عمّا اعتاد الناس مشاهدته في السنوات الماضية سوى في انتقاده النظام البطريركي الذكوري (يا للهول!). ظلّوا «يلاحقون» فرقة موسيقية، إلى أن أجبروا أعضاءها على حلّها. أرعبهم وجود قوس قزح في أحد الكتب المدرسية، علماً أنّه ليس جديداً تعريف الأولاد على ألوان هذه الظاهرة الطبيعية السبعة، وهي لا تمتّ بصِلة إلى العلَم الذي تتّخذه الحركة المثلية لها باعتماد ألوان ستّة فقط. وفي السياق نفسه، «خربوا الدنيا» على السوشل ميديا بسبب بيع أحد الأفران «رينبو كيك»، وهو ما كان يقوم به منذ سنوات، إلى أن أُجبر على سحبه من رفوفه. أثار غضبهم رقص بعض الناس في حانة في مار مخايل، ما استدعى «جنود الربّ» لـ«النزول» عليهم ومحاصرتهم. استفزّهم منشور قديم على مواقع التواصل لإحدى الحانات العريقة في جونية، فأجبروها على الإغلاق! هل من حدّ لحفلة الجنون هذه؟
لم يقتصر الأمر على كلّ تلك الأفعال التي تُلحق الأذى بالموسم السياحي كما بسمعة لبنان الثقافية. وعندما نقول «سمعة ثقافية»، لا تعنينا المعايير الليبرالية الجوفاء التي لا تهدف سوى إلى فرض عادات الرجل الأبيض على بقيّة العالم ولا سيّما الجنوب العالمي، بل المعايير التقدّمية التي كانت الحركات اليسارية والقومية العربية، وحتّى لبنان كبلد، من أوائل مَن قدّمها، وهي تتعلّق بفكرة الإلغاء والرفض والتقوقع من أساسها. فقد تعدّى الموضوع ما سبق من أنشطة مثيرة للعجب ليصل إلى أروقة مجلس النوّاب، حيث تفوّق بعض النوّاب على كسله بنشاط مفاجئ لإقرار قوانين وتعديلات لا تغيّر في حياة المواطن العادي شيئاً! تناسى هؤلاء النوّاب كلّ ما هو مطلوب منهم من قوانين لم يعد إقرارها يحتمل تأجيلاً، وانكبّوا على سجال عقيم يُرجع البلد إلى الوراء رغم أنّه أساساً في الحضيض! كأنّهم يتواطؤون لتحقيق أمنية الصهاينة بردّ لبنان إلى «العصر الحجري».
المشكلة أنّه لم يعد ممكناً اتّهام طرف سياسي معيّن دون آخر، فالانقسام طاول مختلف الشرائح والتوجّهات


المشكلة أنّه لم يعد يمكن اتّهام طرف سياسي معيّن دون آخر، فالانقسام طاول مختلف الشرائح والتوجّهات، ويمكن إيجاد «تقدّميّين» يتقبّلون الجميع، و«رجعيّين» يرفضون وجود الآخر عند أصحاب الرأي السياسي ذاته. هكذا، بتنا نرى انقساماً حتّى داخل الحزب الواحد كما عند «التيار الوطني الحرّ»، فيما يتطابق لمرّة رأي «حزب الله» مع رأي النائب أشرف ريفي بضرورة «محاربة الشذوذ». يقحم «المؤنجزون» اسم «حزب الله» عند حديثهم عن قرار وزير الثقافة التابع لـ«حركة أمل» بهدف تبرير مشروع قانونهم عبر تسجيل النقاط على المقاومة، بينما يستغلّ أنصار المقاومة ما قام به «جنود الربّ»، لتسجيل النقاط على خصومهم. على الضفّة المقابلة، يتنافس حزبا «القوّات» و«الكتائب» اليمينيّان المتطرّفان تاريخيّاً، على إثبات نفسَيهما تقديماً لفروض الطاعة لجهات خارجية، ولا ضير إن استدعى الأمر التخلّي عن «الله والوطن والعائلة». الحقيقة أنّ الجميع في بحيرة الوحل ذاتها، يتراشقون الاتّهامات بعشوائية، فيما الشعب يغرق تحت أرجلهم والمطلوب الخروج من البحيرة قبل البحث في أيّ موضوع آخر!
هل هناك مَن يتعمّد هدم دور لبنان الثقافي الذي احتاج بناؤه تاريخاً، وتجفيف ما كان يُعرف بـ«واحة الحرّية» في المنطقة، في وقت تتّجه فيه دوَل عربية لم يكن لها دور ثقافي حتّى الأمس القريب نحو التساهل والانفتاح بهدف جذب الاستثمارات وتطوير اقتصاداتها وتحسين سمعتها؟ ألا يتمّ التبجّح دائماً بـ «سويسرا الشرق» ونعيه اليوم بمرارة؟ بئس الزمان الذي بات فيه اسكتش كوميدي يشكّل تهديداً أكبر في نظر المسؤولين، من رصاص طائش يذهب ضحيّته عشرات الأطفال الأبرياء كلّ عام. إزاء هذا المشهد، ليس مدّعو الخوف على الأطفال، سوى حفنة من المنافقين!