وريث المراثي الكربلائية

  • 0
  • ض
  • ض

لطالما كان ياس خضر (1938- 2023) صوت المحزونين، وخزّان الشجن العراقي الذي لا ينضب. برحيله أول من أمس، في بغداد، فقدنا حنجرة من ذهب عبَرَ صاحبها حدود بلاده إلى العالم العربي، وإلى البادية السورية خصوصاً، كما لو أنه «فرات» آخر، إذ يندر ألا تجد «كاسيتاً» واحداً له في معظم بيوت السوريين في الجزيرة العليا مخاطباً وجدانهم بثراء تجربته الغنائية كجسر بين زمن ناظم الغزالي، وموجة مطربي سبعينيات القرن المنصرم، مثل فؤاد سالم، وفاضل عواد، وحسين نعمة، وسعدون جابر. لكن حصته من خريطة الحزن لم تنقص يوماً، علامةً واحدة في النوتة الموسيقية، فهو وريث المراثي الكربلائية، ومجوّد القرآن، قبل أن يغادر النجف إلى المركز، مثل عدّاء لم تخذله المسافات الطويلة إلى أيامه الأخيرة، محمولاً بصوته القوي على رافعة الفراق، ووجع السفر، والعشق المعذّب، إذ استقطب نصوصاً نوعية في تأثيث مجاله الغنائي، كتلك التي اقتبسها من أشعار مظفر النوّاب «الريل وحمد»، و«حن وانه حن»، و«ليل البنفسج» برفقة ملحنين كبار أبرزهم جميل بشير، ومحمد جواد الآموري، صديق النجاحات الأولى، ليحتضنه لاحقاً الموسيقار طالب القرة غولي، محلّقاً بألحانه عالياً بما يوازي القدرة الصوتية لصاحب «اعزاز»، و«مسافرين»، و«تايبين»، في مجازفة استثنائية بترجمة المفردات الشعرية الصعبة إلى جملة موسيقية. وسيكمل مسيرته مع ملحني الموجة الثالثة في تجربته المتفرّدة والعابرة للأزمنة بكل انكساراتها وخيباتها وهزائمها. فهناك على الدوام نبرة وجع تنبثق من حباله الصوتية، وتنطوي على حزن تاريخي يصعب محوه من السلّم الموسيقي لبلاد الرافدين، في حالة شطح تعبيرية موازية للمقام الصوفي. صوت «يكفي عشرين مطرباً»، في مزيج من رائحة تراب، وشموخ نخلة، بمعجم ثري من الإحالات. سننتبه إلى أن معظم ملحني أغانيه عملوا على تصدير بهجة ما في المتن الموسيقي، إلا أن ياس خضر سيستدرجهم في وقفة ما إلى الإيقاعات الكربلائية في سفر لا فكاك منه نحو حزن مقيم في عمق الحنجرة، حتى لو كان عنوان الأغنية «ودّعنا الحزن» أو «الدنيا ما تسوى زعل»! لنقل إنّ ياس خضر كان ظاهرة أكثر منه مطرباً بين مطربين، وهوية عراقية أصيلة تختزل عذابات بلاده ومحنها المتعاقبة التي أرشفها الشعر الشعبي بتجليات لا نهائية. وعلى المقلب الآخر، سنقع على أحوال عشق يصعب محوها محمولة على قصيدة لمظفر النوّاب «شلون أوصفك وانت دفتر وانه كلمة/ انت عود وانه نغمة/ شلون أوصفك وانت كهرب وانه قمرة»... بمقاربة ما، بإمكاننا أن نرثي ياس خضر بالكلمات نفسها.

0 تعليق

التعليقات