دمشق | لأنّ الحنيّة الزائدة قسوة، كان ياس خضر (1938 ــ 2023) قاسياً بما فيه الكفاية على مستمعيه، بفرط حنيّة صوته وبحّته الآسرة! إذ كان يعرف كيف يتفنن في إذابة قلوبهم، وحرث وجدانهم، وإحالتهم فور سماعه إلى جبال متراكمة من الذكريات والحنين، ويفتح عليهم طاقة للوجع واستحضار الفقد والحزن والألم!صوت يمكن أن يكون معادلاً موضوعياً للدموع بحسب تعريف همنغواي لها: «تلك المشاعر التي تفيض فتعجز أجسامنا عن استيعابها». وأغنيات ياس خضر مثل المشاعر التي لم يعد الجسد قادراً على تحمّلها، فتنفلت شلالاً من الحزن الأصيل. لم يغنّ الفرح كما ينبغي لأنّه عابر وطارئ في حياتنا، كما أنّ بلده العراق ارتبط تاريخياً بالحزن والوجع والنكبات. ولهذا، ربما لن يكون مدهشاً تزامن موت ياس خضر مع رحيل مواطنه الشاعر الشهير كريم العراقي (1955 ــ 2023).
هكذا، بعدما لاحقته شائعات الموت، انطفأ ليل الجمعة المغني العراقي المخضرم، بعدما نشر ابنه عهد مراراً فيديوات ينفي فيها الأنباء الكاذبة، وخصوصاً تلك التي وصلت إلى درجة تحديد أسباب الوفاة!
لكن هذه المرّة كانت مختلفة، إذ ظهر عهد عبر صفحته على فايسبوك لينعى والده، قبل أن تفعل «نقابة الفنانين العراقيين» الأمر نفسه. علماً أنّ وضع خضر الصحي تراجع خلال الأيام القليلة الماضية. بعدما كان يرقد في مستشفى «ابن سينا» المختص في أمراض القلب في بغداد منذ حوالي أسبوعين، نُقل في الساعات الأخيرة من حياته إلى مستشفى «مدينة الطب» في العاصمة العراقية، حيث مكث في غرفة الإنعاش، لأنه يعاني صعوبة بالغة في التنفس من دون أجهزة طبية، ومن ثم فارق الحياة هناك.
في ما يتعلّق بمسيرته، تفيض المواقع الفنية والبحثية بالمعلومات عن رحلة مترفة بالعطاء. اسمه الحقيقي ياس بن خضر بن علي القزويني الحسيني. بدأ مشواره من النجف مسقط رأسه، عندما كان مقرئاً يتلو القرآن فيأسر القلوب، ثم تحوّل إلى الفن وظل بارعاً في خطف الإعجاب والتأثر على مدار حياته. لقاؤه الأوّل بالملحن محمد جواد أموري كان في نهاية ستينيات القرن الماضي لينتجا معاً أغنية «الهدل» التي بثتها «إذاعة القوات المسلحة» آنذاك، فحققت انتشاراً كبيراً إلى درجة صار اسم مغنّيها «مطرب الهدل». بعدها، غنّى «أبو زركه» التي لم تشتهر كسابقتها. وفي نهاية الستينيات، التقى خضر بالملحن كمال السيد الذي قدم له أغنية «المكيَّر» من كلمات الشاعر زامل سعيد فتاح، وصارت بمثابة جواز مروره. بعدها دخل الراحل إلى «إذاعة صوت الجماهير» ليصبح أحد مطربيها. في بداية السبعينيات، التقى بالملحن الشاب آنذاك طالب القرة غولي الذي وقّع له «البنفسج» من كلمات الشاعر مظفر النواب، ليستمرّ التعاون بينهما إلى أن أتت أشهر أغانيه «مرينا بيكم حمد» لمظفر النواب، ثم «إعزاز» لزامل سعيد فتاح، في حين شكّلت أغنية «تايبين» نقطة فارقة في مسيرته، كونها انتشرت سريعاً. بواسطة هذه الأغنية فضلاً عن التراكم في تجربته، أصبح الراحل نجم الغناء العراقي وسفير بلاده.
هكذا، صار يعدّ «صوت الأرض» مدماكاً أساسياً في الفن العراقي. قدّم خلال مشوار معطاء مئات الأغاني التي يعد بعضها من روائع الغناء العراقي الأصيل، لأنه كان يحرص على تأدية الأغاني الرصينة، ما جعل أعماله تحظى بشهرة كبيرة داخل العراق وخارجه. علماً أنّه قبل دخوله إلى المستشفى خلال أزمته الصحية الأخيرة، كان يتهيّأ لتسجيل ثلاث أغنيات جديدة. نال جوائز عدّة، منها تكريم ضمن «مهرجان الدوحة» عام 2005. وقد وصلت أصداؤه إلى أستراليا وأميركا وأوروبا التي كان يحيي فيها حفلات للمغتربين العرب، فيما كانت لسوريا التي عاش فيها لفترة طويلة حصّة وافرة، وخصوصاً لدى محبّي اللون العراقي وأهل الجزيرة.