كما أنّه ليس مفهوماً عامل الهجمة غير المسبوقة على مجموعة ذات خيارات شخصية معيّنة (الكلمة المفتاح غير المسبوقة)، فإنّه في الوقت عينه ليس مفهوماً إصرار بعضهم على الترويج لهذه الخيارات بطرق قد تصل إلى الاستفزاز وتضرّ بهذه المجموعة أكثر ممّا تنفعها. ولئن يلقي كلّ من الطرفَين سببَ الفورة من جانبه على الطرف الآخر، إلا أنّ المشكلة في غير مكان تماماً، تتعلّق بإلهاء الشعوب وتشتيت انتباهها عن أزمات لم تعُد تحتمل المماطلة، لا في لبنان فحسب، بل عالميّاً أيضاً.في هذا السياق يندرج النقاش المفتوح منذ فترة حول المثلية. نقاش لم يكن «حضاريّاً» دوماً، إذ تخلّلته تهديدات وعنف، بين مَن يعتبر أنّها حقّ إنساني بحت يجب صونه، ومَن يعتبر أنّها «شذوذ» يجب استئصاله بسبب «مخالفته الأديان والتقاليد». ومَن يلعب على الوترَين، يستغلّ الحقد الموجود على الضفّتَين تعزيزاً للانقسام الذي يفيده ويستهوي نتائجه. ومن هذه الخانة يمكن استخلاص ما قامت به mtv التي لطالما عُرفت بكونها اللسان الناطق باسم اليمين المسيحي، ولو أنّها سوّقت لنفسها على أنّها «جامعة» للبنانيّين على طريقة «14 آذار» التي كانت ولا تزال تؤيّد طروحاتها وتفرّعاتها من دون إخفاء ذلك. لكنّها عُرفت أيضاً بكونها إحدى قنوات «النظام» بمكوّناته الطائفية والاقتصادية والمصرفية. وهذا النظام مأزوم، يلجأ منذ فترة إلى تعزيز الانقسامات بمختلف أشكالها بعدما كان يعتمد على الطائفية منها فقط.
وبما أنّ بعض الأحزاب «المسيحية» اليمينية المتطرّفة تاريخيّاً، يجهد منذ فترة على إبراز تخلّيه عن مبدأ «الله والعائلة والوطن» كرمى لمتطلّبات الليبرالية الغربية التي تؤثّر «بلاك روك» وشقيقاتها في خياراتها، وسعياً لـ «نكايات» بحزب المقاومة (المناهض للمثلية) لإثبات الذات، قرّرت mtv القفز على القطار. لكنّ دعستها أتت ناقصة، فـ«تفشكلت» ووقعت، لكنّها بقيت متمسّكة بالقطار الذي جرّها. هكذا، قرّرت القناة أن تشدّ على يد النوّاب الذين اقترحوا مشروع قانون يلغي تجريم المثلية الجنسية، فبثّت شريطاً ترويجيّاً دعوةً لذلك. أمر يبدو مستغرباً نظراً إلى علاقات القناة المعروفة بالمصرفي أنطون الصحناوي وعلاقة الأخير المفترضة بجماعة «جنود الربّ» المتطرّفة الرافضة للمثلية (رغم نفي الصحناوي المتكرّر). على أيّ حال، أظهرت mtv تمايزها، فظهر في الشريط ثلاثة رجال من دون وجههم، وهم في مصعد كهربائي. أحدهم يحمل مسدّساً سرعان ما يهرع لإطلاق النار على ناس بريئين يصرخون هلعاً من إجرامه، فيما يبقى الرجلان الآخران في المصعد تتشابك يداهما، قبل أن يظهر شعار على الشاشة مفاده «في جرايم وفي حبّ... لإلغاء المادّة 534 من قانون العقوبات التي تجرّم المثلية الجنسية». لا يمكن إنكار أنّ في الشريط بعضاً من الإبداعية، وتمّ نشره على مواقع التواصل الاجتماعي مع نصّ مرفق: «الحبّ مش جريمة. السرقة جريمة. الاغتصاب جريمة. بس الحبّ مش جريمة. حملة إلغاء المادّة 534 من قانون العقوبات».



سرعان ما انهالت التعليقات الرافضة والشاجبة، وقامت حملة ضخمة ضدّ القناة مع شتائم واتهامات بـ«الحقارة»، ليس فقط من جمهور المقاومة الذي تنتظر القناة ردوده لتلعب دور الضحية، بل أيضاً من الجمهور المسيحي على تنوّعه السياسي. ووصلت الحملة حدّ تصدّر هاشتاغ «قناة الشذوذ mtv» موقع X (تويتر سابقاً)، أي إنّها سرقت الأضواء من كلّ ما هناك من مصائب أهمّ بأضعاف في البلد! لم يتوقّف الأمر هنا. فالقناة المعروفة بوقاحتها وتحريضها مهما اشتدّت الظروف، انصاعت هذه المرة لرغبات مشنّي الحملة برحابة صدر. لكن «بدل ما تكحّلها، عميتها». فأزالت المنشور وأعادت نشر الشريط ذاته مع تغيير النصّ المرفق إلى: «انطلاقاً من كلام قداسة البابا فرنسيس… المثلية ليست جريمة. نعم لإلغاء المادّة 534 من قانون العقوبات التي تجرّم المثلية الجنسية». وإن كان هناك مَن لم يهاجم القناة بعد، فهي بذلك ضمنت لنفسها ألّا يبقى لها صديق!
لم تستمرّ الحملة فحسب، بل استعرت، وانتشرت صوَر للمنشورَين القديم في مقابل الجديد في محاولة لإظهار «جبن» القناة أو «نفاقها»، فيما استُفزّ عدد أكبر من الجمهور المسيحي الذي وصل بعضه حدّ «التهديد بإعلان إسلامه»! وانضمّ إليهم مجتمع المثليّين نفسه الذي رأى أنّ ما حصل يثبت أنّ حملة mtv لا تعدو كونها ركوباً على الموجة واستغلالاً لقضيّتهم لأهداف أخرى، وما لبثت أن فارقتهم عند أوّل مطبّ. ببساطة، استفزّت القناة الجميع، وهي لا تلام وحدها بسبب الحساسية الزائدة في المجتمع على اختلاف توجّهاته، لكن يؤخذ عليها عدم التنبّه لخصوصيّات هذا المجتمع وحساسية الموضوع وتعزيزها للانقسام. يمكن مقارنة الحال مع ما حصل ببيرة «باد لايت» في الولايات المتّحدة التي خسرت مليارات الدولارات وهي تحاول إرضاء الطرفَين. لكنّ لبنان غير الولايات المتّحدة، فهناك احتمال أن يكون هدف القناة الشهرة بأيّ طريقة ممكنة، وهي نجحت فعلاً في أن تصبح «حديث البلد»، وليست المرّة الأولى التي تقوم بأمر مماثل. رغم كلّ ذلك، تلقّف مؤيّدو الحرّيات الشخصية، ولا سيّما من غير المثليّين، الشريط بإيجابية، وراحوا ينشرونه على صفحاتهم بغضّ النظر عن رأيهم بالقناة، ولو أنّ كثراً منهم من الليبراليّين.
يلجأ النظام المأزوم إلى تعزيز الشروخ المختلفة بعدما كان يعتمد حصراً على الانقسام الطائفي


وكما كان متوقّعاً، كان ردّ للقناة في مقدّمة نشرة أخبارها. بعد تفرّغ مقدّمة مساء الأحد من الأولويّات المتمثّلة في خطاب سمير جعجع التحريضي، تطرّقت إلى الحملة على mtv، مستعيدةً الحديث عن البابا فرنسيس و«متذاكيةً» بمعاني المفردات، لتبرير أنّ غياب «الجريمة» لا يعني عدم وجود «خطيئة». جاء في المقدّمة أنّ «الإعلان الترويجي الذي نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للـmtv لا يزال يثير الكثير من الجدال. علماً أنّ مشاهدة الإعلان من دون أحكام مسبقة يُثبت أنّ الهدف منه ليس الترويج للمثلية والمثليّين كما ادّعى بعضهم، بل منع تجريمهم، انطلاقاً من شرعة حقوق الإنسان، وحتّى من قول البابا فرنسيس الأوّل باعتباره المثلية الجنسية خطيئة لا جريمة. فهل يفهم المعترضون هذا الأمر، وهل يتوقّفون عن اتّهام الـmtv باغتيال الأخلاق وضرب القيَم، علماً أنّها أحرص الناس عليها؟». بعد ردّ مماثل، يمكن الجزم بسهولة بأنّ عدم الردّ كان أفضل من الوحل الذي مرغت القناة نفسها فيه.
همروجة «إلها أوّل ما إلها آخر»، لم يعد يفيد معها سوى التهدئة والدعوة إلى محو الاختلافات المفترضة وتطمين الجميع بألّا أحد يلاحق أحداً. إذ إنّ العلمانية قد تفيد «التاجر» بأن يكون «بكلّ ميلة عندو شريك» عندما يتعلّق الأمر بالطوائف، لكن يبدو أنّ الأمر يختلف عندما يتعلّق بالنقاش حول المثلية. في كلّ الأحوال، يبقى المتضرّر الأكبر مجتمع المثليّين؛ إن كنت مثليّاً، «شو ما دينك الله يعينك»!