البندقية | ماذا يفعل القاتل المحترف أو القاتل المأجور في حياته؟ كيف يمضي يومه؟ وكيف يعيش؟ في «القاتل» الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لـ«مهرجان البندقية» بدورته الحالية (يُعرض قريباً على نتفليكس)، يرينا المخرج الأميركي ديفيد فينشر الحياة اليومية لقاتل مأجور ومحترف (مايكل فاسبندر) لا نعرف اسمه الحقيقي. نتعرف إليه من المشهد الأول يقول لنا في التعليق الصوتي الذي سيبقى طوال الفيلم: «اعتبر نفسك محظوظاً إذا لم تتقاطع طرقنا أبداً». إنه تهديد صريح وواضح. «قاتل» ديفيد فينشر يرتدي قمصان هاواي وقبعة صياد، يأكل في «ماكدونالد»، يمارس اليوغا ويسمع أغنيات فرقة «ذا سميثز» طوال الوقت. يبذل كل ما في وسعه ليبقى غير مرئي، ويستخدم جهاز مراقبة دقّات القلب على معصمه، ليتأكد بأنّ معدلات قلبه دون مستوى معين. إنه كائن زاهد، والتحدي الحقيقي لعمله ـــ كما يقول ـــ هو الملل، لأنه قد تمرّ أيام من دون أن يحدث شيء في انتظار قتل هدفه.
مايكل فاسبندر في مشهد من العمل

جديد فينشر فيلم إثارة وتشويق مستوحى من كوميكس للفرنسي أليكسي نولان المعروف بـ«ماتز». القاتل الصارم والمعصوم عن الخطأ، يرتكب خطأه الأول أمامنا. خطأ سيكلّفه الكثير، وسيصبح هو الملاحق! والآن، أصبحت شهوته للانتقام ممن أرادوا قتله واعتدوا على شريكته، بلا رادع، فما عليه إلا قتل كل من يقف في وجه انتقامه من مرؤوسيه.
يبدأ الفيلم مباشرة من تترات البداية، التي تذكّرنا بتلك الخاصة بالسينما الأميركية الكلاسيكية، أو حتى المسلسلات التلفزيونية. تتدفّق الصور والتلميحات لتحكي تقريباً القصة. ورغم أن عنوان الفيلم يوحي بأننا سنعود إلى أجواء «سبعة» (1995) أو «زودياك» (2007)، إلا أن جديد فينشر يقدّم منظوراً مختلفاً لشخصية القاتل. عمل ثابت وأنيق، يتبع نفس نمط بطله، ويتغيّر بدقة عندما يحدث ما لا مفر منه. «القاتل» فيلم غامض، ولعلّ ما لم يُقل يبقى إحدى أعظم نقاط قوته. إنه فيلم يشبه العملية الجراحية، لا مجال فيه للخطأ، يفتقر إلى ذروة حقيقية، لأن كل شيء فيه يسير كما هو مخطّط له، مع ذلك، يبقى مفاجئاً وغير متوقّع.
رحلة انتقامية، وهو شعور إنساني للغاية، لقاتلنا الذي يقول لنا طوال الفيلم بأنّه يملك خطّة، لكنها في الواقع غير موجودة. طوال الفيلم، نشاهد كذبة متواصلة، تبدأ في المقدّمة التي يسردها القاتل وتمتد على كلّ أفعاله، وهذا ما يجعل عمل فينشر مميّزاً، أي إنّ ما يقال لنا وما نراه مختلفان تماماً. أفلام فينشر تغرقنا في حالة من فرط الحساسية حيث يفسر دماغنا كل إيماءة أو صوت على أنه دليل، وهذا ما يريدنا أن نشعر به في هذا العمل. وإذا انتبهنا إلى كل ما يمر أمامنا، وكل نظرة وكلمة وحتى الكلمات المردّدة كثيراً في التعليق الصوتي للقاتل، سنرى أن «القاتل» ليس مجرد قصة مثيرة عن قاتل بارد الدم يسعى إلى الانتقام، بل صورة عن عالم في حالة تدهور وانحدار، ورحلة داخلية إلى عوالم إنسان اختلق كذبة ليعاش فيها حتى أصبح محترفاً!
فيلم فينشر مدروس بعناية، مكتوب بدقة ومُقدَّم بأفضل طريقة ممكنة، يسجّل أيضاً عودة رائعة للممثل مايكل فاسبندر، الذي ترك عالم التمثيل منذ فترة، ليكرس وقته لسباق السيارات. لكن فينشر كان يطمع به بشدة، ولَمَا أخرج الفيلم من دونه كما قال. حسناً فعل! لا يمكن لأحد أن يقدّم ما قدّمه فاسبندر في الفيلم.