تحمل رواية رُلى الجردي «مئة رعشة» (دار الآداب)، أوجهاً وحالات عديدة لشخصيّات تطلّ على تعقيدات الحياة البشريّة والخبرات الإنسانية، ولا تشكّل هذه المقالة سوى مقاربة واحدة من مقاربات عديدة ممكنة. ما يميّز الرواية أنّها تفتح الباب أساساً لصوت المرأة بشخص بطلة القصّة لمى، وحولها ستدور هذه المقالة من خلال مقاربة قلق لمى، وما ندعوه رحلة بحث عن الذات والمعنى.لمى المستقيلة من مشاعرها عالقة في دائرة من الوقت الممطوط إلى الأبد أو بالأحرى الذي يدور حول نفسه. تحاول إنهاء دراستها الأكاديميّة، أطروحة الدكتوراه، من دون طائل. عقلها مشتّت، طاقتها تدور في حلقة مفرغة من اللامعنى، تكذب على الناس وعلى نفسها بأنّها ستنهي الكتابة قريباً. تعمل في التدريس في جامعة بمرتّب زهيد، تحاول الحصول على وظيفة أستاذ دائم بدون نتيجة ففي مقابلاتها مع اللجنة الجامعيّة المعنيّة بالتوظيف لا هي حاضرة الذهن، لا مقتنعة بكلامها، ولا هم مقتنعون. نقابلها للمرّة الأولى جالسة في مقهى مع أستاذين من اللجنة التي قابلتها للوظيفة للتوّ. كما جرت العادة بعد المقابلة مع طالب وظيفة أستاذ، نجدها هائمة في عزف بيانو أخّاذ يُبَثّ على التلفزيون؛ تائهة في البيانو، في العزف، غير قادرة على متابعة أسئلة محدّثيها.

ما يميّز رواية رلى الجردي أنّها تفتح الباب أساساً لصوت المرأة

المقابلة تفشل بالطبع. يشرق في الفراغ الذي تدور حوله أفكار لمى الهائمة بالبيانو. نعرف أنّها لعبت البيانو في طفولتها قبل أن ترميه أمّها خارجاً ضاربة برغبة لمى عرض الحائط. وجه قاسٍ لأمّها نراه خلف الرغبة برمي البيانو. أمّها التي لم تتوانَ عن الكلام الذي لا ينتهي في المنزل. طوفان من الكلام تدفن الأمّ فيه قلقها، أمّها التي تريد أن تحقّق لها مكانة في مجتمعها الضيّق بواسطة نجاح ابنتها في العلم، أمّها التي كان الجميع يتلافى فتح «جبهة قتال» معها، تلك «المرأة التي التصقت بي والتصقت بها حتّى الاختناق» كما تقول لمى التي لم تَعُد تذكر متى سلّمت لأمّها قيادة حياتها واستقالت هي من القيادة مستسلمةً أمام «حبّها لي»، كما تخدع لمى نفسها وتقول. أمام قسوة الأمّ واستهتارها التام بإرادة لمى، بشخصها ورغبتها في متابعة دروس البيانو، لا يمكننا إلّا أن نشفق على لمى التي لا تتجرّأ ــ مثلنا كلّنا لو كنّا في موقعها ــــ أن ترى أنّ أمّها مهما كانت عاطفتها الطبيعيّة كأمّ لم تستطع أن تحبّها كإنسانة، وإنّما غدت ابنتها بالنسبة إليها أداة تحقّق بواسطتها رغباتها وأحلامها. ألا تعجّ الجامعات بالطلّاب الذين قرّر أهلهم عنهم ماذا عليهم أن يتعلّموا؟ ألا تعجّ العائلات بأزواج تزوّجوا ككلّ الناس بدون أيّ رباط شخصيّ، عاطفيّ فكريّ جنسيّ؟
وجه قاس آخر هو وجه معلّمة البيانو التي لم تشجّع لمى يوماً، ولم تخبرها مطلقاً أنّ عزفها ممتاز وأنّ عليها المتابعة. لاحقاً، توقظ الجُردي وجه معلّمة البيانو البارد القاسي في مواجهةٍ بين المعلّمة وبين لمى. تعذر المعلّمة نفسها بأنّها لم تشجّعها يوماً لأنّها كانت تتمنّى للمى أن تكتشف بنفسها رغبتها وأن تناضل من أجلها. عذر إنسانة قطعت في الحياة شوطاً أمام مراهقة كانت تحتاج إلى التشجيع وبناء الثقة بالنفس. نكاد نرى وجه لمى يعتمره القرف والغضب. ينتهي الكلام أمام السقوط العميم، أمام لمى إنسانة قاسية تقارن قدرة إنسان ناضج حرّ متمكّن، رهافة مراهِقَةٍ تحتاج إلى التشجيع وبناء الثقة بالنفس ويمكنها أن تعاني الرضّ بسهولة. تدير لمى ظهرها لمعلّمة البيانو كما أدارت ظهرها لاحقاً لتاريخ طويل داخل قمقم الأمّ وقمقم التوقّعات الاجتماعيّة.
تعلّقت لمى بأخ رفيقتها، كلمة «أحبّت» كبيرة جدّاً على علاقتهما السريعة. لكنّ الشاب يذهب لاحقاً في رحلة ويعود متبدّلاً، في علاقة تبعيّة ذليلة لرجل دين يسعى لسلطة في المدينة بإذكاء الفتن وسحق أيّ معارضة. يتوقّف الشاب عن الحديث إلى لمى ويتجنّبها. تضطرّ أن تدفن صورته في نفسها، مع إحباط وغضب يستشفّهما القارئ من دون أن تذكرهما الجُردي. تدفن لمى عشقها للشاب وتتابع دراستها وحياتها. تتعرّف إلى زوجها، تتزوّج كما يتزوّج الناس. تدفعها أمّها دفعاً للدراسة في أميركا، فتذهب إلى أميركا كما يذهب بعض الناس... لكنّها اليوم في ورطة، ورطة الدوران في حلقة مفرغة. فراغ لا يحول ولا يزول يتأكّل حيويّتها وطاقتها. ثقبٌ في الروح أسود يمتصّ طاقتها، ويكلّل أيّامها بلا معنى تجرّه خلف خطواتها أينما حلّت. تتذكّر علاقتها بأخ رفيقتها، أو يكون هناك المعنى الذي أضاعته؟
تنقذها مفاجأة من الدوران في الحلقة المفرغة. عازف البيانو الذي سمعته في المقهى، قريب المرأة التي تستأجر عندها لمى شقّتها. تتعرّف عليه. يسعى الاثنان للتقارب، بينما زوج لمى، الذي يضعه ضياع لمى على مسافة جليديّة منها، يسافر في رحلة بحثيّة برفقة زميلته. عبر روعة الموسيقى والعزف، عبر جمال الروح التي تطلق أجنحتها فوق رياح النوتات الموسيقيّة، تتواصل لمى من جديد مع نفسها، يتضاءل الثقب الأسود داخل روحها، ويشرئبّ المعنى ضوءاً خافتاً في ليل محنتها المظلم. قُرْبها المتواصل والمريح من العازف، يحتفّ به مجازفة العلاقة الرومانسيّة. وها قبلةٌ واحدة بينهما توقظ لمى إلى الطريق الذي وضعت فيها نفسها. تستقرّ فوراً أنّها لا تريد علاقة حبّ مع العازف، تفضّل معه تقارباً فكريّاً وروحيَّاً وتبلغه بذلك. هو العازف لا الحبيب، بعزفه وكلماته يشير إلى طريقٍ، والطريقُ تشير إلى لمى بمعنى جميل يستحقّ الحياة لأجله، أو هو يجعل الحياة جميلة.
البيانو الذي رمته الأمّ يترنّح في ذاكرة لمى. رُمي بلا ندم من الأم التي لم ترَ قلب لمى المكسور وهي تكنس البيت ذاك الصباح. لمى أيضاً لم ترَ، تابعت حياتها كما يتابع الناس حياتهم من دون أن يقيموا وزناً لأحاسيسهم. تابعت حياتها كما تنتظر منها أمّها أن تتابع. زواج، دراسة، ونجاح... لكنّ النجاح هرَب ولم تره الأمّ التي تتوفّى. فشل في الدراسة، وفشل في الحبّ، يسيلان من وصف الجُردي للمى. رائحة الحبّ تعود مع عودة الزوج من رحلته البحثيّة، تعود الحرارة إلى علاقتهما، شيء في زوجها تغيّر بعد عودته، وربّما شيء في لمى تغيّر بعد لقائها العازف. بعد مدّة يخبرها زوجها أنّه خانها مع زميلته أثناء السفر. تتصدّع العلاقة من جديد ويعود شبح الفشل، وعويل رياح فراغ المعنى وسط القلب.
فَشَل الحبُّ في حياة لمى، فهل من معنى آخر؟ ربّما كان المعنى هو ما أشار إليه جدّها الذي أحبّته وأحبّها، فتبادلا النقاش العميق في صباها. لم يفهم لمى سوى جدّها. كان الجدّ صاحب طريقة صوفيّة، ينشد الحبّ الإلهيّ، مع مجموعة من المتصوّفين في طرابلس. التوتّر بينه وبين رجل الدين الباحث عن سلطة في المنطقة تفاقم، لا يأبه جدّها للأمر. لكنّ لمى تكتشف علاقة خاصّة بين جدّها المتزوّج ومنشد في الطريقة الصوفيّة، مسلم من أصل أرمنيّ خُصي أثناء ملحمة هروب الأرمن من تركيا إلى سوريا ولبنان وصاحب صوت يخلّب الألباب. تأخذنا الجُردي بجمال ورونق عبر رحلة هروبه مع أهله في أرمينيا، مروراً بخدمته كمغنٍّ لدى أحد الولاة الأتراك، وحتّى خصائه الذي يخضع له بعد فشل محاولته هروبه من قصر الوالي وإيجاد مكان أمان. يعود الأرمنيّ إلى أمان القصر مقابل الخصاء. يعطي خصيتيه مقابل أن يُعطى الأمان. لكنّه يهرب من جديد إلى حلب، حيث يسحر الألباب بصوته المدهش في الكنيسة، ويخصّه المايسترو باهتمامه ويضع له خططاً لمستقبل شهير قبل أن يحاول الاعتداء عليه ليلاً. الأرمنيّ اليافع يدافع عن نفسه، لكنّ الكاهن يعاقبه على وقوفه بوجه المايسترو واتّهاماته له، فالكهنة اعتادوا على أن يصمت الناس، وأن يقرّروا هُم وحدهم في الحقّ والباطل. يهرب المنشد الأرمنيّ إلى طرابلس ويلاقي أتباع الطريقة الصوفيّة، فيصبح منشدهم المفضّل ويقابل جدّ لمى. لكنّ الزعيم الدينيّ المتشدّد الذي يوقع حبيب لمى الأوّل في حبائله، يقتل المنشد ويخنق حلقة الطريقة الصوفيّة. تكتشف لمى علاقة خاصّة بين أبي جدّها والمنشد الأرمنيّ بعلم زوجته. يخبرها جدّها أنّه حبّ مختلف وأنّها لن تفهم. لكن ما يسحر لمى ولا تفهمه هو علاقة الصوفيّ بالله. هل يكون العشق الصوفيّ، وتحليق الروح هو المعنى؟ لا شكّ في أنّ الضوء الذي ينعكس على وجه جدّها وفي كلماته يقول شيئاً من هذا. ولكن لمى لا تتّبع الطرق الصوفيّة لتعرف إن كان هو المعنى.
كان الجدّ ينشد الحبّ الإلهيّ، مع مجموعة من المتصوّفين في طرابلس


تتكثّف الأحداث في نهاية الرواية وتعود لمى للقاء أخ رفيقتها بالمصادفة. مرّت السنون وهو أضحى أصوليّاً مسلّحاً. بلقائها به، ذاك اللقاء المتعرّج المخيف، تموت بقايا ذاك اللقاء الماضي الخفيف المضيء، الأوّل والأخير، الذي جرّبت به لمى نار الرغبة. يموت تحت وقع السلاح والدين. تضمحلّ وعود المعنى في الرغبة الأولى. تنجو لمى وتعود إلى زوجها وابنها، وتقرّر أن تعود أيضاً إلى البيانو.
ما المعنى إذاً؟ ماذا حدث للمى؟ ما يهمّ أنّ لمى كانت ضائعة فوجَدت نفسها، وكانت ميتة فعاشت، كما قال يسوع في مثله الشهير عن الابن الضال أو الضائع. ضياع لمى لم يكن في هجرها الحبّ وانغلاقها على حاجاتها كذاك الابن الضائع في ذاك المثل الذي أراد أن يرث أباه في حياته، بل كان في ضياعها عن ذاتها، في أنّها تركت القيادة لآخرين، أنّها كانت ككلّ الناس، وفعلت كلّ ما يتوقّعه الناس منها، بدءاً من أمّها، وصولاً إلى زوجها، مروراً بدراستها وزواجها. ماتت لمى بدفن موهبتها وعاشت بالتواصل مع مشاعرها ونفسها من جديد. لمى إنسانة لم تجد مَن يحبّها، فانطوت على نفسها، لم تلاقِ حبّاً حقّاً من والدتها. لم تجد حبّاً حقّاً من معلّمتها، لم تجد حبّاً حقّاً في نار الرغبة، فتغرّبت عن نفسها وكان هذا جحيمها. غربتها عن نفسها هي ذاك الثقب الأسود الذي كان يبتلع خطواتها وحضورها الكلّي. حتّى المكان الوحيد الذي أنشأت فيه عائلة مع زوجها وأنجبا فيه ولداً، كان عصيّاً على الفرح لأنّه لم تكن حاضرة فيه كفاية. وكيف يمكنها أن تكون حاضرة حين تكون نفسها مُصادَرَةً من المجتمع، من المحيطين بها في الطفولة، من الدور الذي يُنتَظَر أن تؤدّيه كزوجة وكأمّ؟ باتت لمى غريبة عن نفسها تعيش لخدمة حاجات الآخرين ورغباتهم، ولهذا ضاعت. لم تتمكّن لمى من أن تكون إلى أن قرّرت في نهاية الرواية معانقة مشاعرها، التمسّك بالموسيقى من جديد، العودة إلى نفسها لتجدها، فينتهي الضياع ويتحوّل الثقب الأسود إلى ثقب أبيض كتلك الثقوب البيضاء في الفضاء التي تلد الطاقة والحياة.
ربّما تقول لنا لمى إن عدنا إلى أنفسنا ووجدنا مفاتيح البيانو خاصّتنا، وجدنا عندها المعنى في الحبّ والحياة اللذَين نُطلقهما على هذه الأرض، ليوحّدا فينا الجسد والفكر والعاطفة والحرّية ويحملا القلوب بأجنحة الرغبة، فيكون «زمن غريب» «الأجساد فيه غير الأجساد، والقلوب أبواب المعرفة» كما تقول رُلى الجردي على لسان لمى في وصفها للطرق الصوفيّة. عندها كلّ شيء هو لغة لقاء، وتُفتح حياة الإنسان على مئة رعشة تلد المعاني وتولد فيها.