جُلنا في هذا الملتقى الراقي والمبهج بين المنحوتات واللوحات، فتوقفنا متأملين كلّاً منها: أعادنا ألفرد بصبوص الذي فارقنا عام 2006 إلى أعماله (كواحد من البصابصة) التي تشهد على عصاميته وواقعيته وتلقائيته بين أسلبة وتجريد وزخرفة. كانت علاقته بالحجر طقسيّة وجدانيّة داخليّة، مستلهماً الواقع بنزعة مثالية ورمزيّة تتكئ على الأساطير الشرقية. وللمرأة حضور طاغ في منحوتاته كما في «ليدا والبجعة» حيث نحت جسدها الجميل الراقص في الصخر، معتمداً بساطة التكوين لإبراز الخفة والرشاقة وإن على نحو تجريديّ مختزل. منحوتة الرائد زافين هديشيان «تحية لرودان» (برونز) منسابة في تناغم لا متناهٍ مع عمل رودان المشهور «المفكّر»: صلابة وتحليق، وبراعة تكوين تولّد الدهشة. ومن هديشيان إلى سعدالله لبّس الذي ينحت في الحجر والرخام أشكالاً هندسية تشي بالدورة الطبيعية للحياة، وأحياناً بقسوة العالم الحديث. منحوتته تستكشف الذات وعوالمها الداخلية. حرفة دقيقة، نظيفة، متينة، ترتقي بالحجر مادّةً خاماً إلى العمل الفني المليء رمزاً وتعبيراً. إنّه فنّان وحي قبل أن يكون فنّان حرفة. منحوتته مفتوحة على مدى غنائيّ ووجدانيّ، حتى إنّنا نستطيع أن نطلق عليه «شاعر الحجر».
حسين ماضي المكرّس رسّاماً، شاء خوض تجربة النحت بمادة الفولاذ تحت عنوان «الثورة»، ليصوغ بهذه المادة المقاومة للصدأ أشكالاً مجرّدة، ملهمة، تبعث بدورها على الدهشة والإحساس بجوهر الفكرة ودلالاتها.
استلهم ألفرد بصبوص الواقع بنزعة مثالية ورمزيّة تتكئ على الأساطير الشرقية
من ناحيته يطوّع النّحات العصاميّ بولس ريشا (مواليد 1936) الحديد بمهارة لافتة وليونة تصبّان في المنحى التعبيريّ الرمزيّ، في تناسق مبهر، مريح، يكثّف المادة بعيداً عن أي تعقيد. إلى أربع منحوتات لشاهين رفّول مقيماً «حواراً حجريّاً» بين خشونة ونعومة حتى إنّنا نتوق إلى تحسّسها برؤوس الأنامل.
أمّا الفنان المخضرم إبراهيم زود، صاحب «غاليري زود» التي كانت مساحة عرض ولقاءات ثقافية دافئة لعقود خلت، فمادّته منذ البدايات هي الخشب الذي ينحت فيه بإحساس الشاعر (هو اللصيق زمنياً بالشعراء أيضاً)، مثل قصيدة متوازنة المعنى والمبنى، غنيّ بالمفردات الدقيقة والتجريد، جامعاً بين التقليديّ والحديث، لبلوغ تكوين نحتيّ مكتمل ينطوي على متعة بصريّة. بأسلوبه المعروف والمعهود، تُعرض منحوتة لرودي رحمة بعنوان «تقدّم» فيما تزدان منحوتة شارل خوري كاللوحة بالألوان.
في غياب النشاط التشكيليّ البارز والمميّز صيفاً، تأتي المنحوتات في هذا الملتقى، لتأخذنا إلى مطارح من الدهشة نحن في أمسّ الحاجة إليها.
* «ملتقى دار تابت للفن»: حتى العاشر من أيلول (سبتمبر) الجاري ـــ دار تابت في عجلتون (محافظة جبل لبنان)
سوريالية ألفونس فيليبس
ضمن الملتقى، تُعرض أيضاً أعمال للفنان الراحل ألفونس فيليبس الذي عاش طوال حياته في لبنان. هو ألماني الأصل، درس النحت في «الجامعة اللبنانية الأميركية» و«الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا). عُرضت أعماله في أماكن بارزة مثل «متحف سرسق». بالإضافة إلى إسهاماته في عالم الفن، قدم فيليبس مواهبه الإبداعية في مجالات أخرى، إذ صمّم الأزياء المسرحية والسينوغرافيا لأعمال المعلّمين منير أبو دبس وريمون جبارة، بالإضافة إلى تزيين النوافذ للعديد من المتاجر الكبرى، مستخدماً مهاراته لإنشاء مؤثرات خاصة مصممة لكل مكان. استخدم فيليبس مجموعة متنوعة من المواد، بما في ذلك الصفائح المعدنية والمسامير وأغصان أشجار البلوط والزيتون والليمون. كما استخدم وسائط غير تقليدية لأعماله التجريدية في الغالب، والمملوءة بلمسة من السوريالية، تنضح بالقوة من خلال خطوطها المختصرة وأشكالها النقية. وغالباً ما كان يدمج أشياء جاهزة أو مواد طبيعية في إبداعاته، يعزز طابعها المميز.