البندقية | إذا كان الأسلوب هو تقليد وتكرار نفسك ومواضيعك، فوودي آلن ملك هذا الأسلوب. منذ سنوات طويلة، علّمنا أنّ الكون لا يبالي بمصائرنا، ونحن كبشر تعساء، علينا تقبّل ضربات الحظ والمصادفة، على أمل أن تسير الأمور على ما يرام. في «ضربة حظ» الذي عُرض خارج المسابقة في «مهرجان البندقية السينمائي» الحالي، يكرر المعلّم الأميركي مفاهيمه بأسلوبه المعتاد والساخر، مقدّماً لنا ملخصاً عن المواضيع التي أثارت اهتمامه على مر السنين، ولا تزال تشكّل مادةً للتفكير. في «ضربة حظ»، المواضيع هي نفسها، الحظ والقدر والخطيئة، مضيفاً إليها سؤالاً: هل يمكن أن تتحول المصادفة إلى خطر حقيقي؟ يعتقد آلن ذلك، وهذا انعكاس يحمله معه منذ شبابه وشغفه بدوستويفسكي.
مشهد من الفيلم

بعد «منتصف الليل في باريس» (2011)، يعود آلن في فيلمه الخمسين «ضربة حظ» إلى عاصمة الأنوار، مع كوميديا مبهجة وغادرة، وللمرة الأولى يتحدث بالفرنسية. منذ المشهد الأول، نعرف أننا أمام قصة لسيد مدينة نيويورك، الذي يحب الأرصفة والمشي والأحاديث. يبدأ الفيلم على رصيف شوارع باريس، حيت يلتقي آلان (نيلز شنايدر) مصادفةً بفاني (لو دو لاج) صديقته السابقة في المدرسة الثانوية التي كان يحبّها بالسرّ. هو الآن كاتب، وهي متزوجة من جان (ميلفيل بوبو)، البورجوازي الذي تقضي مهنته بـ «جعل الأغنياء أكثر ثراءً». من أجل المتعة والصداقة تبقى لقاءات الآن وفاني مستمرة، فهي التي وضعت حلمها وميولها الفنية وطبيعتها المتمردة في الخزانة، وتعمل اليوم في دار مزادات فخم. لقاءاتها مع صديقها القديم الجديد تخلط الأوراق، وتكتشف فاني من جديد مشاعر المراهقين، فهي سئمت قضاء عطلات نهاية الأسبوع في الفيلا الريفية، حيث تُصطاد الغزلان، والثرثرة العقيمة في المطاعم الفخمة. المصادفة بدأت تصبح عادةً، واللقاء تحول إلى حبّ، والنهاية أصبحت معروفة، أو لنكن واضحين، النهاية غير معروفة أو متوقعة لأنّ القصة خارجة من خيال وودي آلن.
يبدأ الفيلم بتترات البداية المعتادة الأنيقة باللون الأبيض على الخلفية السوداء، علامة أصلية لمخرج «مانهاتن» (1979) و«آني هول» (1977). ومن ثم تبدأ الثرثرة التي تظهّر النفاق الاجتماعي يقابلها صدق المشاعر والأحاديث لأشخاص آخرين. تستمر القصة بالإيقاع المعتاد اللطيف، ويأتي آلن بالمفاجآت والصدمات والموت الذي يخيّم على القصة، تاركاً أيضاً المجال لعبثية الفوضى للتحكّم بالأمور. كأن آلن غير آبه تقريباً بمستقبل شخوصه، وهمه الأساسي هو فكرته التي يريد تقديمها من خلالهم، وما يحدث معهم خلال رحلة الفيلم هو مجرد وسيلة لإيضاح ما يريد قوله. لذلك، لا يبقى للشخصيات إلا العيش في الحاضر، وتجنّب خطط المستقبل أو محاولة الفوز باليانصيب، وترك الأمور للمخرج لأخذهم حيث يشاء. عبر مزيج من الإثارة والتحقيقات البوليسية، يشكّل «ضربة حظ» انعكاساً لمعاني الحبّ والحياة والموت، على ثقل المصادفات والقدر، ويترافق هذا كله مع الكوميديا الرومانسية المحبّبة لآلن.
يعود المصور السينمائي الكبير فيتوريو ستورارو («القيامة الآن»، و«الإمبراطور الأخير»، و«التانغو الأخير في باريس») الحائز جائزة الأوسكار ثلاث مرات للعمل مع آلن للمرة الخامسة. كالعادة يتحول معه الضوء إلى شخصية في «ضربة حظ»: كل حيّ وكل موقف له لونه الخاص، بينما اختار آلن الموسيقى التصويرية الجازية لمايلز ديفيس. هذا المناخ الذي يجمع خريف باريس والجاز وألوان المصور ستورارو، يجعل الفيلم مثل رائحة الكرواسون الطازجة.
«ضربة حظ» هو ضربة معلم لأحد أعظم المخرجين في تاريخ السينما. رؤية الصالة وهي تصفّق مع بداية الفيلم وخلاله وبعده دليل على الحب الهائل تجاه وودي آلن، وفيلمه الذي يجب الاستمتاع به، فهو يشبه الحياة التي تكون دائماً قصيرة لا يمكن التنبؤ بها.