ليس بودّي إثارة الجدل، بل أرغب فقط بإيضاح بعض الأمور لقرّاء جريدة «الأخبار» الذين أكنّ لهم كل التقدير. لقد انطلق الكاتب أبو خليل من مقالتين في المسألة اللبنانية، نشرتهما لي أخيراً جريدة «الشرق الأوسط»، ليكيل لي مجموعة من النعوت فاجأتني وأحزنتني إلى أبعد حدّ، ليس أقلّها اتهامي بالعداء للشيعة، وبالنظرة الدونية إليهم، والعداء للإسلام والمسلمين! وهي نعوت أغرب من الخيال في ما يخصني، مناقضة تماماً لشخصي وفكري ومساري. ربما الكاتب لا يعلم عنّي الكثير. فأنا موجود منذ نحو نصف قرن في المشهد الأدبي والفكري والثقافي اللبناني والعربي، منذ ترؤّسي «حركة الوعي» حتى اليوم. وحياتي صفحة كبيرة بيضاء، لم يطلها يوماً أحد بسوء، مهما كان طفيفاً. وقد تناولتني مئات المقالات والدراسات والإسهامات، بقلم العشرات من الأدباء والمفكرين والنقّاد، من أنسي الحاج إلى طلال سلمان، ومن السيد محمد حسن الأمين والسيد هاني فحص، إلى الأب يوحنا صادر وهنري فريد صعب ومحمد فرحات وغسان الحلبي ومحمود حيدر وخالد زيادة وعناية جابر وبسام حجار وماري القصيفي وفايز مقدسي وعصام العبد الله ومحمد الحجيري ومحمد صفي الدين وغسان علم الدين ومحمد العبد الله، والكثير سواهم، ما لا يتسع المكان لتعداده. وهي مقالات عن عوالمي الشعرية والسردية والروائية والفكرية، وعن مسارات حياتي، فيها ما فيها من التحليل والتقدير والمحبة.
ومع أن جغرافيتي الأدبية تمتد على مساحة شاسعة، كما أقول، «من جبل الحصن، فوق إهدن، إلى مرتفع الملاك ميخائيل، عند تخوم بلاد النورمان والبروتون على المحيط الأطلسي»، على مثال حياتي الممتدة بين العالمين، فلا يوجد في أعمالي أي أثر لصراع الحضارات والأديان. فالبشر جميعاً موحّدون لديّ في جوهرهم الإنساني الأعمق. ونظرتي واحدة إلى الملك والشحاذ، وإلى الفيلسوف والجاهل. وما يفرّق بين البشر من أديان وثقافات وأعراق، كان في نظري على الدوام أقل شأناً بكثير مما يجمع بينهم على الصعيد الوجودي: وحدة الهواجس والمخاوف أمام مرور الزمن، وهشاشة الجسد البشري، والأوجاع والمآسي، والأحلام والأوهام، وغموض المصائر، والموت. وكل مؤلفاتي، المستمدة من حياتي الداخلية، موضوعة تحت نجمَي الرأفة والجمالية، الرأفة تجاه المصير البشري، والتفاعل مع جمالية الحالات والمشاهد والفنون.
وبعد هجرتي الطويلة، أعيش منذ سنين في ما يشبه العزلة، الأقرب إلى حياة النسّاك، على كتف وادي قزحيا حيث أُقيم. أوقاتي موزّعة بين التأمل، والكتابة، والتواصل مع الطبيعة.
من خلفيّتي الفكرية، وخلفيتي التخصّصية في الأنتروبولوجيا، أرى لبنان في واقعه الحالي بلداً مقسّماً (أنطوان الدويهي)


ومع علمي أنه يصعب على لبناني إقناع لبناني آخر بأي شيء في هذه المرحلة القلقة المضطربة التي نعيش، فقد أقدمت على نشر تلك المقالتين في المسألة اللبنانية، كشهادة على ما يحدث. فمن خلفيتي الفكرية، وخلفيتي التخصصية في الأنتروبولوجيا (علم الحضارات)، أرى لبنان في واقعه الحالي بلداً مقسّماً. لكني أعلم تماماً أنّ مجرى التاريخ أمر بالغ التعقيد، تتشابك فيه العوامل الداخلية والخارجية، والمعطيات الذاتية والموضوعية، والمادية والثقافية، يصعب معها إلقاء المسؤوليات، كما يصعب التوقع. أعلم كذلك أنه في لبنان، كما في أنحاء المشرق، لم تستطع مختلف الأنظمة المتوالية على مدى قرن كامل، منذ سقوط السلطنة العثمانية حتى اليوم، أن تحقق الانتقال التاريخي من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد/ المواطنين، بل على العكس من ذلك، قويت الجماعات واشتد عصبها أكثر. وكل ما أتمناه، ومن كل جوارحي، أن تستطيع الجماعات المختلفة، المقيمة في المدى اللبناني وفي المدى المشرقي منذ أقدم الأزمان، التي أحترم خصائصها وأقدّرها، أن تجد طريقها إلى التفاهم والتفاعل الخلّاق والعيش المشترك في إطار دولها، بعيداً عن العنف، وبعيداً عن الحروب الأهلية، التي هي الشرّ الأعظم.