وراء سور المدينة القديمة في جبيل، يختبئ مبنى تراثي بين الأزقّة التاريخية والأشجار المعمّرة. بمحاذاة مفرق الميناء قبل شارع السوق القديم، باب حُفر في السور يأخذك إلى درب يطيب المشي عليه ويشعرك براحة البال. هدوء لا يكسره سوى قفز بعض القطط التي تلهو أمامك، قبل أن تلفتك في أوّل الدرب بوّابة مفتوحة في مقابل مركز اليونسكو، وبجانبها لافتة كُتب عليها: «بيت فارس ولوسيا». يثير الاسم فضولك، فتنظر في الداخل لرؤية درّاجة هوائية قديمة تستلقي على جدار البيت الأثري. يدعوك «أهل البيت» إلى الدخول، وعندها تتسنّى لك مشاهدة حديقة جميلة وواسعة فاتتك لسنوات حتّى لو كنت حفظت أحياء بيبلوس عن ظهر قلب.أنت في بيت ضيافة ليس كغيره، سبق وجوده كلّ «الفورة» التي حصلت، وخصوصاً خلال الموسم الحالي. هنا، الهدف ليس تجاريّاً بحتاً، بل يحمل في طيّاته رسالة ثقافية تتمثّل في تصاميم البيت ومحتوياته والأمسيات الموسيقية «الراقية» التي تحتضنها الحديقة الساحرة. يتمتّع البيت بموقع مميّز في داخل المدينة القديمة، ويطلّ على قلعة جبيل الأثرية والميناء، وينعم مَن يرتاده بمنظر خلّاب 360 درجة، يغطّي جبيل وبيروت والبحر. لكلّ غرفة وحائط ونافذة وقطعة أثاث... قصّتها الخاصّة. بعضها يعود إلى تاريخ وضع أساسات البيت منذ أكثر من ألف سنة، فيما أتى بعضها الآخر من أماكن مختلفة مثل جبيل وبيروت وسوريا واليمن... كلّ شيء يبدو في مكانه، متناسقاً. ببساطة، الوجود في مكان كهذا يشبه الوجود داخل لوحة فنّية.

في حديث مع «الأخبار»، تسرد صاحبة هذا الإرث المميّز، نجوى القصيفي، مراحل وصول البيت إلى ما هو عليه اليوم. تخبرنا أنّ البيت كان يعود لوالدَيها فارس ولوسيا اللذَين «تمتّعا بعلاقات اجتماعية واسعة، وكانا عرّاباً وعرّابة لنحو 300 عائلة، وإشبيناً وإشبينة لنحو 400 عائلة. غالباً ما ألتقي بأناس في الأمسيات التي تُقام في حديقة البيت أو في السوق يصادف أنّ أحد والدَي كان عرّابهم أو إشبينهم. هو أمر جميل بالنسبة إليّ، ويعكس الانفتاح التاريخي في الحيّ كما في البيت الذي لم يكن له مفتاح يوماً، فأبوابه لطالما كانت مشرّعة أمام الجميع». بعد والدَيها، انتقل البيت لأربعة عقود إلى شقيقتها قبل أن تستلمه هي. لكنّ فكرة بيت الضيافة لم تكن قد نضجت بعد.
«بعد العمل في مجال التنمية الاجتماعية والصحّية وشعوري بأنّها لا تصل إلى مكان، قرّرت العودة إلى البيت والتعليم. مرّت فترة كنت أسكن فيها أحد الطوابق وأؤجّر آخر، لكن بسبب ضجيج الموسيقى التجارية في الملاهي المجاورة في السوق، لم يعد يمكننا النوم، فانتقلتُ إلى المكوث في منزل شقيقتي. قرّرتُ حينها تحويل البيت إلى مطعم أسميته «كازا لوسيا» نسبةً إلى والدتي، لكنّه لم ينجح بسبب موقعه المخفي بعض الشيء. من هنا، كانت فكرة إحدى صديقاتي بتحويله إلى بيت ضيافة، بحكم أنّ كلّ بيوتي كانت بيوت ضيافة في كلّ من جبيل وبيروت واليمن والمغرب وفرنسا، فاقتنعتُ وشعرتُ بأن أكمل المسار الذي بدأه أهلي». هكذا، بات البيت يحمل اسم «فارس ولوسيا» المثير للفضول. «ما من أحد في جبيل لم يسمع بفارس ولوسيا»، تشرح القصيفي. وتضيف: «أعطينا البيت اسمَيهما لما لذلك من دلالة على أبوابه المفتوحة دائماً أمام كلّ الناس على اختلاف أطيافهم. هو رمز كبير للتعايش، فهنا كانت مدرسة المقاصد وشيخ الإسلام ومدرسة الراهبات. الحيّ مختلط، وكان الأمر مميّزاً منذ صغرنا وربينا على احترام الآخر، والبيت هو صورة عن هذا التنوّع».
تغوص القصيفي في تدرّج مراحل بناء البيت عبر التاريخ، وتلفت إلى وجوده «على زاوية سور المدينة القديمة بسبب بنائه منذ أكثر من 1200 سنة كبرج حراسة. وبعد ذلك، بُني عقد في الداخل من ثلاث غرف مفتوحة بعضها على بعض، وتراكمت الزيادات حتّى إضافة الطابق الأخير منذ نحو مئة سنة، قبل أن نجهّزه للضيافة». وتشير إلى قنطرة عمرها 1200 سنة، وأخرى صغيرة تحت البيت عمرها أكثر من 3000 سنة، وهو ما «يُظهر جبيل من حيث كونها إحدى أقدم المدن المأهولة باستمرار. روح المدينة القديمة في تراثها وأهلها، ولا تزال فيها عائلات». لكنّ القصيفي تحذّر من خطر نزوح هؤلاء بسبب الموسيقى الصاخبة التي سبق أن اعترضت عليها أمام عدد من المعنيين؟
«نحاول الحفاظ على التراث من خلال هذا البيت مع المحافظة على طابعه القديم لا في الشكل فقط، بل في المواد المستخدمة أيضاً»، تقول القصيفي قبل أن تعبّر عن حسرتها لأنّ «هناك نقصاً في المعرفة عن جبيل وتاريخها وآثارها حتّى بين أبنائها... ومدارس المدينة لا تعطيها أهمّية... وحديثاً بدأ التنبّه إلى أهمية الترميم وطرق تنفيذه بما لا يضرّ بالآثار».

لا يكتمل البيت من دون لمسة صاحبته الخاصّة، وخصوصاً من حيث التصميم الداخلي: «سافرت إلى بلدان عربية كثيرة، ولا سيّما اليمن الحبيب. للباب الرئيسي قصّة من هناك، وكذلك النوافذ الملوّنة المصنوعة يدويّاً وبعض المصابيح. كلّها تماشت مع أغراض والدَي وتقاطعت معها». وتتحدّث أيضاً عن قطع عدّة، من بينها ستائر حصلت عليها من صديقتها في سوريا التشكيلية شلبية إبراهيم التي أخذتها بدورها ومن شابّة فلسطينية في مخيّم اليرموك صنعتها يدوياً.
بالإضافة إلى التجربة الغنية في قضاء ليلة في غرف «بيت فارس ولوسيا» والاستمتاع بالمناظر الجميلة، تستضيف حديقة المكان دورياً أمسيات وحفلات موسيقية يحييها موسيقيّون متمرّسون. تخبرنا القصيفي أنّه «لطالما كان لديّ اهتمام بالموسيقى... إلى درجة أنّ سطح بيتي حيث كنّا نلتقي في بيروت سُمي بـ «سطيحة نجوى»... وعليه، كنّا نغنّي مع الموسيقار نبيه الخطيب وعازف الناي الراحل حبيب المعلّم وغيرهما، فيما أصدقاء آخرون يلعبون الجاز، وصديق من الهند يعطينا صفوف يوغا، هكذا. وعلى هذه «السطيحة»، كانت غالبيّة الجمعات مع الراحل جوزف سماحة الذي لم يختبر الطاقة في هذه الحديقة غير مرّة واحدة، وكان البيت في طور الترميم. هذه الطاقة أحبّتها أيضاً الفنّانة أميمة الخليل التي أحيت حفلة هنا مع الموسيقي زياد الأحمدية، وكذلك شعر العازف سمير نصر الدين بها فكتب أغنية خاصّة بي وبالبيت. تحوّلت الحديقة إلى ملتقى، وأضحى الحاضرون يواظبون على المجيء حتى باتت الأمسيات مثل جمعات عائلية».
«الحكي مش متل الشوفة». عبارة شهيرة يردّدها اللبنانيّون، وتنطبق على «بيت فارس ولوسيا». فرَوعة هذا المكان لا توفيها الكلمات أو الصوَر كامل حقّها. وما الأمسيات الفنية إلّا فرصة متجدّدة لمَن لا يرغب بالمبيت خارج منزله، لاختبار تلك الأجواء والاستمتاع بطاقتها الإيجابية.