«أقسى ما يمكن قوله عن شخص ما أنّه مات في الوقت المناسب» (إلياس كانيتي)

في حدود التاسعة من صباح السادس عشر من آذار (مارس) 1978، وقعت سيارتان حكوميتان من نوع «فيات 130» زرقاء، و«ألفا روميو» بيضاء، تعبران شارعاً جانبيّاً هادئاً في روما، في كمين بين سيارتين أجبرتاهما على التوقف، لينفجر تجاههما وابل من رصاص مهاجمين يرتدون الزي الرسمي لـ«أليطاليا» (شركة الطيران الوطنية). السيارتان كانتا موكب ألدو مورو، رئيس وزراء الجمهوريّة لخمس مرّات، ورئيس «الحزب الديمقراطي المسيحي»، التنظيم السياسيّ النخبوي المهيمن على السياسية في إيطاليا. كان مورو في طريقه مع حرسه إلى مقر الحزب، ومن ثم إلى البرلمان الإيطالي حيث سيعلن رفيقه في الحزب، جوليو أندريوتي، أسماء حكومته (الرابعة) المؤيدة هذه المرّة بثقة موعودة من نواب الحزب الشيوعي الإيطالي وفق تفاهم لم يكن عرّابه سوى مورو شخصياً. وبينما صدى ضجيج المدافع الرشاشة لا يزال يتردد عبر شارع «فيا فاني»، نُقل مورو خلال ثوانٍ إلى سيارة كانت تنتظر جانباً، فيما قضى أربعة من حراسه على الفور، وتوفي الخامس متأثراً بجراحه البليغة لدى نقله إلى المستشفى.
كانت تلك اللحظات (ثلاث دقائق) بدايةً دراميّة تليق بحادثة مقتل مورو، بخلفياتها وتفاصيلها وأسرارها ونهايتها المفجعة. أصبحت للإيطاليين علامةً على حقبة تاريخية كاملة، كما كانت مثلاً حادثة الحادي عشر من سبتمبر بالنسبة إلى الأميركيين لاحقاً. يتذكّر الإيطاليون أبناء الجيل الذي عاش حادثة الاختطاف، أين كان كل منهم ذلك الصباح عندما تواردت الأنباء عن اختطاف رئيس الحزب الحاكم ونسّاج علاقات القوّة الأهم في تاريخ بلادهم الحديث، حيث تدافع الأهالي لجلب أولادهم من المدارس وانزوى الناس إلى بيوتهم خوفاً من الأسوأ.
رغم مرور خمسة وأربعين عاماً، والعديد من لجان التحقيق البرلمانية، وعشرات الاستجوابات والتحقيقات القضائية، بل الإدانات، كما مئات الكتب والمقالات والأفلام، فإن الجدل لم يُحسم تماماً حول كيفية انتهاء هذا السياسي المعتدل وأنظف رجال الطبقة القذرة التي حكمت إيطاليا على الهوى الأميركي منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. قُتل وحيداً ومعزولاً في التاسع من أيّار (مايو) 1978 بعد أربعة وخمسين يوماً من الاحتجاز ووجد ملقى في الصندوق الخلفي لسيارة «رينو» حمراء تركت في منتصف المسافة بين مقرَّي الحزبين الديموقراطي المسيحي والشيوعي. بقيت ألغاز «قضيّة مورو» تلقي بظلالها الثقيلة على إيطاليا إلى اليوم.

في نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين، كانت إيطاليا تعيش في ذروة ما يشبه حرباً أهليّة بين اليمين واليسار عرفت بـ «سنوات الرصاص» استمرت بين أواخر الستينيات وأوائل الثمانينيات، وشهدت أعمال عنف سياسي وإرهاب واعتقالات وانقسامات. وقتها، أراد ألدو مورو كسر دوامة الاستقطاب بين الإيطاليين عبر نسج تحالف حد أدنى بين ورثة الفاشيست في الحزب الديمقراطي المسيحي المدعومين من واشنطن، وورثة المقاومة الإيطاليّة في الحزب الشيوعي المدعومين بدورهم من موسكو ضمن ما سمي لاحقاً بـ «التسوية التاريخيّة». أراد مورو تجنب الأسوأ المتوقع، أي انقلاب عسكري فاشيستيّ على نسق انقلاب بينوشيه الدموي في تشيلي عام 1973. سافر في عام 1974 إلى الولايات المتحدة، وكان وقتها وزيراً للخارجية، ليستمزج واشنطن بشأن فكرة التحالف تلك. ووفقاً لما قالته إلينور شيافاريلي، أرملة مورو، وكذلك معاونوه، فإن اجتماعه حينئذ بهنري كيسنجر، وزير الخارجيّة الأميركيّ أزعجه كثيراً، إلى درجة أنه شعر بالامتعاض وكاد أن يتقيأ، وقد عزم بعدها على ترك السياسة برمتها. لم يقتنع الأميركيون وقتها بتسوية مورو. حذّروه من العبث بما أسموه الاستقرار السياسي في إيطاليا الذي تأسّس في مؤتمر يالطا، أي الهيمنة الأميركيّة على إيطاليا عبر انفراد اليمين الموالي لها بالسلطة. كرّر كيسنجر تحذيره لمورو من المضي في خططه لإشراك الشيوعيين في السلطة عام 1976 أيضاً. قال له بصلف: «عليك أن تضع حداً لخطتك السياسية بحشد جميع القوى السياسيّة في بلدك للعمل معاً. يجب أن تتوقف الآن عن محاولة تحقيق هذا الأمر، أو أنّك ستُعاقب بشدة». على أن قيادات الحزب الديمقراطي المسيحي، وبابا الفاتيكان – كان حينها صديقاً قريباً لمورو – أصرّا على تولي مورو منصب رئاسة الحزب، ومنحه الصلاحيّة لبناء تفاهم مع الشيوعيين بشأن منح الثقة لحكومة يشكلها اليمين من دون أن يكون اليسار ممثلاً فيها مباشرة في المناصب الرئيسيّة.
اختُطف مورو صبيحة يوم أداء تلك الحكومة للقسم، وأعلن تنظيم «الألوية الحمراء» (الماركسي اللينيني) المسؤوليّة عن ذلك، قائلاً إنّ مورو سيخضع للاستجواب من قبل محكمة شعبيّة تنظر في أمره. بالطبع، كان الأمر مثيراً للريبة في كل تفاصيله. فكيف يمكن لمجموعة من العمّال والطلبة تنفيذ عمليّة اختطاف لأهم أحد السياسيين في البلاد بكل هذه الدّقة المحترفة في بلاد شهرتها الفوضى وسوء الأداء؟ لماذا ترك الرجل الذي يشبّك الخطوط لتفاهم تاريخي من دون حماية كافية وفي سيارة عادية غير مصفحة؟ وكيف تفشل كل الأجهزة الأمنية والعسكريّة التي تراقب كل شاردة وواردة في البلاد، في تحديد موقع احتجاز رئيس الحزب الحاكم بعد 54 يوماً؟ وكيف جاءت الشجاعة لمسخ الدولة الإيطالية التي تتعايش فيها جنباً إلى جنب المافيات وعملاء المخابرات وقساوسة الفاتيكان، لتتخذ موقفاً صارماً ونهائياً برفض التفاوض مع المختطفين؟ وكيف طاب لرفاق مورو في الحزب الذين كانوا تلاميذه وأتباعه وأصدقاءه وحلفاءه أن يسمحوا بتركه، بل يشاركوا في إيقاع حكم الموت به؟
تبدو كل هذه الأسئلة والتفاصيل – وجميعها مهمة ورمزية – كأنّها قطع متفرقة ومرتبكة من تراجيديا شاركت فيها أطراف كثيرة، داخليّة وخارجيّة، في اليمين واليسار، من السلطة ومن الخاطفين. وبدا لو أنّها تفاهمت بشكل أو بآخر على أن تغييب مورو في تلك اللحظة من التاريخ أمر «مناسب» للجميع. لقد كان كما «مسيح فاد»، ينبغي التضحية به لمسح خطايا كل البشر الآثمين.
ترك مورو لمصيره بين سذاجة اليسار الثوري، وتخلي طبقته السياسية وحزبه، واليد الأميركية المنجوسة


الأميركيّون الذين يحكمون إيطاليا فعلياً، لم يريدوا لذلك التفاهم أن يتحقق. أرسلت حكومة جيمي كارتر خبيراً لإدارة الأزمة في روما يدعى ستيف بيتشنيك اعترف بعد ثلاثين عاماً بأن «الأيادي الأميركيّة ملوثة بدماء مورو»، وأن مهمته كانت التلاعب بتفكير الخاطفين للتخلص من مورو لا إنقاذه. كما وجهت إدانة رسميّة من القضاء الإيطالي لأندريوتي بتدبير حادثة قتل الصحافي الإيطالي كارمين بيكوريلي بعدما كشف عن دور شبكة «غلاديو» اليمينية السريّة (أدارتها الاستخبارات الأميركية بهدف ضمان بقاء السلطة بيد اليمين الإيطالي) في اختطاف مورو وتصفيته. السوفيات بدورهم لم يحبذوا فكرة منح الشيوعيين الغطاء لحكومات اليمين المتأمرك، فيما أعضاء الحزب الحاكم بمن فيهم أندريوتي، رئيس الوزراء، وفرانشيسكو غوسيغا، وزير الداخليّة، وكبار رجالات الجيش والأمن الفاشيّو الهوى – معظمهم تبين أنهم كانوا أعضاء في محفل ماسوني يدعى «بي2» ـــ حريصون على عدم إغضاب واشنطن بأي شكل، أو انكشاف أمر خيانتهم لو اعترف مورو بأسرار الدولة. وهم طلبوا إلى المافيا الإيطالية التي تطوعت للعثور على مورو بكفّ يدها عن الأمر وترك الأمر لأجهزة الدّولة. واكتفى الفاتيكان بالدّعوات للصلاة، وجمع التبرعات من المؤمنين، وتوجيه الرجاء للخاطفين بإطلاق أسيرهم من دون شروط. وتجنبت عائلة مورو المشهد العام بعد تأكيدات لها من الزعماء الإيطاليين بمن فيهم الرئيس الإيطالي حينها بأن الدّولة ستبذل كل جهد ممكن لإنقاذ حياة الزعيم المحبوب، وتنطّح الشيوعيون إلى الإعلان عن موقف رافض لكل تفاهم مع الخاطفين، خشية أن يحسبوا على ماركسيّي «الألوية الحمراء» عند دفع الحساب، فيما تغلّب رأي الفئة قصيرة النظر استراتيجياً على العقلاء في «الألوية الحمراء»، فلم يحسنوا قراءة نوايا الحكومة الإيطالية وراعيها الأميركي، ووقعوا في الفخ الذي ظنوا أنهم أعدوه لها.
صانع الأفلام الإيطالي الأسطورة ماركو بيلوكيو (83 عاماً) يسرد هذه التراجيديا الإيطاليّة في تحفة من ست ساعات تلفزيونية بعنوان «الليلة من الخارج». العمل يُعرض كمسلسل على القناة الرابعة في بريطانيا، وكفيلم من جزأين في إيطاليا، وأيضاً كمسلسل على القناة الأولى في التلفزيون الإيطالي، إلى جانب منصة نتفليكس. «الليلة» في العنوان، تعني ليلة مقتل مورو و«من الخارج» إشارة إلى أن السرديّة تغطي الديناميات الخارجية للحادثة التي سبق أن غطّى منطقها الدّاخلي في فيلمين سابقين أحدهما وثائقي (1995) وآخر روائي شهير (صباح الخير أيها الليل ـــ 2003).
استدعى بيلوكيو لمسلسله طاقم عمل متألقاً: فابريزيو غيفوني الذي يلمع في أداء شخصيّة مورو، وتوني سيرفيلو الذي يلعب دور البابا بولس السادس، صديق مورو، ومارغريتا باي (إلينورا أرملة مورو)، وفاوستو روسو أليسي (وزير الداخلية فرانشيسكو كوسيغا)، وفابريزيو كونتري (رئيس الوزراء جوليو أندريوتي)، ودانييلا مارا (أدريانا فاراندا من «الألوية الحمراء») وغيرهم من النجوم. والحقيقة أن كل الممثلين بمن فيهم الكومبارس قدموا، بتوجيه بيلوكيو، عملاً لا ينسى.
تحكى كل حلقة في «الليلة من الخارج» من وجهة نظر إحدى الشخصيات الرئيسيّة في أجواء الحادثة: مورو نفسه ـــــ الذي يبدو فابريزيو غيفوني كأنّه قد تقمّص روحه بالفعل، وهو يؤدي الشخصية ذاتها للمرة الثالثة بعد فيلم ومسرحيّة سابقين ــــــ ذلك الرقيّ، والهدوء، والتروي، والتواضع، والمشاعر العائلية الدّفاقة التي تليق بيوليوس قيصر معاصر سيخونه أقرب رفاقه، وأيضاً تلك النظرة الحزينة التي تجمع بين ثقة العارف بخلفيات العالم، والسخرية المريرة من ضعف البشر المدعين.


وهناك كوسيغا الذي يجعله بيلوكيو كما شخصية مستلة من مأساة شكسبيرية، فكأنّه الخائن ماكبيث الذي قتل ملكه، فتسيطر عليه الرؤى الكابوسية لدماء على يديه لا يستطيع التخلص منها، وتلاحقه على الجدران حيث تغطي الدماء لحظة موت مورو أجزاء خريطة كبيرة لروما في مكتبه في الداخلية. وأندريوتي الشرير، المكيافيلي المحض، الذي يريد استمراره بالسلطة – بما تتطلبه من خضوع للأميركي وللقوى الفاشيستية - مقدّمة حتى فوق مشاعره الشخصيّة نحو مورو. أيضاً هناك البابا بولس السادس، الذي كان صديقاً شخصياً لمورو، لكنّه يتوانى عن الخروج على الحدود التي رسمها الأميركيّون لإنقاذ صديقه، ويكتفي بالصلوات وتوجيه النداءات للخاطفين دون رجال الحكم الممسكين بالسلطة باسم الإيمان المسيحيّ. ومارغريتا باي التي تمنح شخصية إليونورا مورو تلك الرفعة الأرستقراطيّة الملمح والحزن الفضيّ بينما تحاول إنقاذ حياة زوجها والحفاظ على عائلتها معاً خلال تلك الأيام المؤلمة. وأيضاً هناك عضوا «الألوية الحمراء» أدريانا فاراندا ورفيقها فاليريو موروتشي (يؤدي الشخصيّة غابرييل مونتيسي) اللذان يشاركان بأدوار مختلفة في التحضير لعملية الاختطاف ودعمها تالياً، وتتنازعهما التناقضات بين التزامهما الثوري ومشاعرهما الإنسانية، كما اختلاف وجهات نظرهما حول المعنى الاستراتيجي لقتل مورو مقابل إطلاق سراحه. ومن المعروف أن فاراندا كانت ترى في قتل مورو «انتحاراً للألوية الحمراء»، لكن دوغمائية الرّفاق الآخرين كانت أقوى منها. يرسم بيلوكيو من هذه القطع المتفرقة للحكاية، ما يشبه لوحة جداريّة هائلة، تسجّل بدقّة معظم الأحداث التي شهدتها فترة الاختطاف المأساوي لمورو ملوناً إياها بطبقة فنيّة تعطي للشخصيات عمقاً مسرحيّاً تستحقه، وامتزاجاً مبهراً بين السياسي والإنسانيّ، تسندها مقاطع من موسيقى كلاسيكيّة تنطق بروح الألم والتلوث الذي أصاب الأمة الإيطاليّة، بين التّخلي والخيانة على هذا الجانب، والدوغمائية وقصر النظر على الجانب الآخر، ليدفع الثمن في النهاية «الشخص الذي كان الأقل التباساً بين الجميع»، على ما ذهب المخرج والكاتب الإيطالي بيار باولو بازوليني. لقد أدان بيلوكيو في «ليلته من الخارج» كل الذين تفرقت دماء ألدو مورو بين أيديهم. جلادوه الحقيقيون، وليس أولئك الذين ضغطوا على الزناد: رفاقه وأصدقاؤه وحلفاؤه في النخبة السياسة الحاكمة -يميناً ويساراً، وفي الفاتيكان أيضاً ـ الذين أداروا ظهورهم له وتآمروا لدفع الخاطفين لقتله، وأيضاً الأميركيّون الذين أرادوا التضحية بالرجل في الوقت المناسب على مذبح استقرار إيطاليا في عهدتهم، ومسخ الدولة الإيطالية الكسول والمخترق والفاشل الذي أمكن لثلة من الطلبة والهواة هزيمته، وماركسيو «الألوية الحمراء» الكئيبون الذين عجزوا عن إدراك أبعاد اللعبة الاستراتيجيّة التي تورطوا فيها، فكان قتل أسيرهم انتحاراً سياسياً. بعث مورو من سجنه رسائل عدة نقلها مقاتلو «الألوية الحمراء» إلى عائلته ورفاقه في الحزب والحكومة يدعوهم فيها إلى العمل لإنقاذ حياته والتفاوض مع الخاطفين. لكنه بعدما أدرك طبيعة المؤامرة - التي شارك في صياغتها الصحافيون عبر مقالاتهم الموجهة – وخيانة الجميع له، طلب إلى زوجته في إحدى رسائله الأخيرة ألا يشارك أحد من جلاديه في جنازته. وهو ما كان، فحمله إلى لحده الأقرباء في القرية الصغيرة توريتا تيبيرينا، حيث موقع منزل العائلة الريفي على بعد 25 ميلاً من روما، من دون حضور أيّ من رجال الدّولة أو الحزب أو الفاتيكان. وتُلي بيان على الصحافيين باسم العائلة، أرملة مورو وأبنائه وأحفاده، جاء فيه: «العائلة ستنسحب إلى الصمت وتطلب الصمت، أما بالنسبة إلى حياة ألدو مورو وموته، فليكن الحكم للتاريخ». لقد قال التاريخ كلمته على لسان مبعوث الحكومة الأميركيّة ستيف بيتشنيك: «لقد قتلنا ألدو مورو».

Exterior Night
على نتفليكس