الاستفادة الصريحة في المسلسلات العربية من الدراما والسينما العالمية، كانت ولا تزال بمثابة لازمة ترافق صناعة الكثير من الأعمال السورية واللبنانية والمشتركة. البعض يستقي بحرفية ومنطق عندما يُعيد تدوير فرضية معيّنة التقطها من عمل أجنبي، ولكن وفق سياق بيئتنا وانسجام مع تفاصيل وبنية المجتمع ومعطيات حكايته وروح العصر الذي تدور فيه، بينما «يعفّش» (يسرق) البعض الآخر جوهراً درامياً ومشاهد بحذافيرها ويُعيد تجسيدها ببلاهة فنية مفرطة بالحدّ الأدنى من المهنية واحترام عقل وذوق المشاهد الذي صار سهلاً عليه الوصول إلى كلّ الإنتاجات العالمية بكبسة زرّ.الكلام لا يندرج تحت بند الاتهامات طالما أن الأدلّة موجودة، ومنها ثلاثية شركة «صبّاح إخوان»، أوّلها مسلسل «لو» (المأخوذ عن Unfaithful ــ عام 2002)، و«تشيللو» (عن فيلم Indecent Proposal ــ عام 1993)، و«نصّ يوم» (عن فيلم Original Sin ــ عام 2001).
وسط خواء المخيّلة هذا، لن يكون غريباً أن نشاهد مسلسلاً جديداً للشركة التي يديرها صادق الصبّاح مأخوذاً على مستوى التأسيس الدرامي للحكاية من عمل أجنبي. الحديث هنا عن مسلسل «الغريب» (كتابة لبنى حدّاد ولانا الجندي، وإخراج صوفي بطرس/ «شاهد» ــ 12 حلقة) الذي يؤدّي بطولته بسام كوسا وفرح بسيسو وغيرهما. يستفيد العمل بمنطق القصّ واللصق من المسلسل الأميركي اللافت Your Honor، من دون أيّ إشارة إلى العمل الأصلي أو الرغبة في الامتثال للقواعد المهنية، وسط تعدٍّ صريح على الحقوق وادّعاء التأليف زوراً.
طبعاً، لا يمكن المقارنة بين المسلسلين لأنّنا في العمل العالمي أمام مقترح وحبكة قصصية مدهشين وتصعيد درامي مدروس وتبرير لكل فعل وتفصيل. إلى جانب أداء تمثيلي مبهر من البطل الأميركي برايان كرانستون، مروراً ببقية الفريق الذي تواكبه رؤية إخراجية تبتكر حلولاً بصرية بالاتكاء على مفاتيح القصة.
في المقابل، نجد أنفسنا في «الغريب» أمام تهاوٍ يفتقر إلى أيّ نوع من الإبهار سوى الفرضية المسروقة أصلاً، من دون أدنى عناية. لكن سرعان ما تذهب الأمور إلى أحداث مختلفة عن نسخة العمل الأصلي، مع استسهال في صوغ الحلول وطرح القضايا المافيوية بطريقة كرتونية مضحكة. إلى جانب الانفصال الكلّي في بنية الأحداث التأسيسية عن شكل الحياة الواقعية في دمشق التي تنطلق منها الحكاية، والمنطق الذي بات يسيّج عمل المحاكم فيها.
يتألّف العمل الدرامي من 12 حلقة


القصة هنا، تنسج خيوطها من يوميات صارمة من دون تطرّف، لقاضٍ يتورّط ابنه في جريمة قتل عن طريق الخطأ، فيقرّر تسليمه للشرطة. على باب المخفر، يكون صديقه الذي تسبّب في الجريمة قد رافق محاميه للاعتراف الكاذب بأنّ ابن القاضي هو الفاعل. أثناء سوق المتهم خارج المخفر ــ خلافاً لكل الأعراف والتقاليد السائدة في سوريا ــ تمرّ سيارة تابعة للمافيوي الذي قُتل ابنه، وتصفّي الشاب الذي سلّم نفسه. هنا، يهرب القاضي مع ابنه ليحتميا بالسيارة، ثم يغادران نحو محامٍ فاسد وصديق قديم يقرّر تهريب العائلة كاملة بطريقة غير شرعية إلى لبنان.
يتورّط القاضي في العمل مع عصابة خطيرة تحميه، ويبدأ بمساعدتها بتبييض الأموال بمنطق نوعي وجديد في مسلسل «الغريب» وحده دوناً عن غيره، إذ يجلس الرجل في سوبر ماركت يديره ليأتيه الشخص المرتبط بالعصابة، ويسلّمه حقيبة مليئة بالدولارات. بعد فترة وجيزة، يمرّ شخص آخر ويتسلّم الحقيبة وتنتهي مهمته! إنّه تبييض الأموال على الطريقة السورية ــ اللبنانية المجترحة بمنطق درامي معاصر، ربّما لا يمكن أن تدرك جوهره سوى المخلوقات الفضائية المقيمة في كواكب لم تكتشف بعد!
الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل يصل إلى ذروة «الإدهاش» مع تعقيد الحكاية، واكتشاف القاضي فجوة قانونية «مذهلة» في قضية مافيوي لقبه «البيروتي» والذي غادر بلاده إثر تورّطه في قضية ما، وعاد محمّلاً بثروة وقرّر تبرئة نفسه ففتح القضية. لم يسأل أحد نفسه من صنّاع العمل، ما الذي يجعل مجرماً يُعيد تحريك قضية ضدّ نفسه كانت قد طويت؟ ربما يكون الجواب: رغبته في تبييض صفحته! لكن، كيف لهذا «التبييض» أن يعتصم عند المنطق الدرامي «الأبله» نفسه الذي تعمل فيه عصابات تبييض الأموال في مسلسلنا هذا؟
على كلّ حال، وبالعودة إلى الفجوة القانونية التي لم ينتبه لها فريق «البيروتي» القانوني خلال 17 عاماً، استطاع القاضي «الحربوق» كشفها خلال ساعات. وهي أنّ أحد الشاهدَين الرئيسيَّين اللذَين أدين «البيروتي» بسبب شهادتهما، كان يلبس نظارة طبية سميكة. ادّعى يوم شاهدته بأنّه كان يريد إصلاح نظارته المكسورة وهو ما غيّر توقيته، فكيف تمكّن من الرؤية السليمة وهو لا يرتدي النظارات؟ علماً أنّه حتى هذه الحيلة «ملطوشة» من مشهد استجواب القاضي لأحد شهوده في المسلسل الأميركي، لكن تعريبها على طريقة الكاتبتين السوريتين أرسلها إلى هذا المطرح من السذاجة والتسطيح الدرامي.
هذا إن لم نقف عند تفاصيل ثانية تبدو مهمة للغاية، مثل تبرير الوضع المادي الجيّد لقاضٍ سوري نزيه. طبعاً، هذه قاعدة فيها استثناءات تؤكدها ولا تلغيها، مثل أن يكون القاضي ابن عائلة غنية بالأصل. نصل بعد ذلك إلى الطريقة الغريبة في اختطاف ابنة القاضي والأسلوب المهلهل في اقتراح معالجة الأمر، فيما نسي صنّاع العمل فكرة الزمن. خلال ثلاثة أيّام، بنت العائلة صداقات وطيدة وعثرت الأمّ على وظيفة طاهية في بيت، ثم استطاعت الفتاة صوغ صداقة عميقة مع ابن «البيروتي» وصديقته وبدأت عملاً خيرياً مع الجمعيات وصادفت أمها في أحد البيوت.
هذا في ما يخصّ الجوهر الحكائي الذي يبدو فعلياً عاجزاً عن إقناع الممثلين بتبنّيه. لذا سنرى أداءً متراخياً بعيداً عن الإقناع، وخاصة عند الممثلة فرح بسيسو العائدة إلى الساحة حديثاً، فإذا بها تفقد جزءاً يسيراً من براعتها. ويبقى أداء الممثلين الشابين ساندي نحاس وآدم الشامي مجرّد عنصر إضافي يساهم في فشل المسلسل، باعتباره أداءً تعتريه البرودة الواضحة، لدرجة بناء حاجز مع المشاهد ومنعه عن التعاطف، حتى عندما يستحق الأمر ذلك. كل ذلك وسط تنفيذ إخراجي للورق المكتوب من دون تدخّل أو اجتهاد أو محاولة إنقاض. باختصار، «الغريب» تجربة معدّة لهدر الطاقة والمال، مع العجز عن تحقيق أيّ ملمح للمتعة.