على غفلة من كلّ شيء، اختار خالد خليفة فتح خزانة حلوله الدرامية، وقرر اختيار أسهلها وأكثرها ازدراءً عند المتلقّي المتمرّس، أي الموت المفاجئ بأزمة قلبية! كأنه أراد إمرار مشاكسته المعتادة مع المبضع النقدي، والتهكّم المقصود عليه في مشاهده الختامية، كما ظلّ يفعل طوال حياته، لكن بحرفة من يغلّف سخريته وآراءه القاسية بالحب كي يتقبّله الجميع ويضحكوا من قلوبهم، قبل أن يرفعوا كؤوسهم عالياً ويرددوا معاً بصحّة «أبو خلوف» إذا كان على الطاولة أصدقاء قدامى من أيّام «جامعة حلب» أو ستكون الجملة العصرية الطارئة «أحلى خال» كما عرفته كلّ سوريا.هكذا، إذاً اختار صاحب «الموت عمل شاق» أن يلبس «طاقية الإخفاء» من دون مراسم وداع، أو حتى تمهيد سخيف، كأنه قرر أن يقول: «لقد مزحت معكم ولا ذنب لي إن صدّقتم، فالموت أسهل على الشجعان ممّا تتخيّلون، وها أنا ذا أذوي إلى البعيد». الغياب سيكون فعلاً هذه المرة جسدياً فقط، بتطبيق مثير للرمزية البسيطة التي يجرّب الجميع عبثاً تقديم العزاء بها لذوي أي راحل.
بحضور لمّة من نجوم الدراما والثقافة السورية في بار «فندق الفردوس»، كان الملتقى الثقافي الأسبوعي الذي تشرف عليه رولا الركبي قد اختار أن يكرّم الروائي والسيناريست الراحل، فقال جملة بحدّ السكين: «أكتب المسلسلات التلفزيونية لأقبض ثمنها وأسافر كي أتمكّن من إنجاز رواية جديدة وأعود» ليثير حفيظة نجوم التلفزيون. بعد مرور قرابة 15 عاماً على هذه الواقعة، ردّ الفايسبوك السوري أمس عند اندلاع خبر وفاته، كأن الجمهور ينتصر لجملته تلك من دون قصد، إذ مرّ أغلب المعزّين على أعماله الروائية واقتطعوا جُملاً منها قبل استذكار مسلسلاته التلفزيونية. هذا لا يلغي نهائياً جدّية تجربته الدرامية، وفرادة قسط منها، وخصوصاً أنه من القلّة التي قدّمت من خلال الشاشة مقترحاً روائياً متماسكاً. فقد قبض الراحل بإحكام على متلقّيه في عمله التلفزيوني الأوّل «سيرة آل الجلالي» (سنة 2000/ هيثم حقّي) وسرده الممتع وتفكيكه لجزء من بنية مدينته حلب وتركيبتها، بغناها وتناقضاتها وجمالها الآسر، من خلال «عائلة الجلالي» التي تتعرض لانكسار مالي كبير، وتبدأ معاناتها لتكتشف بأن الأزمة مرتبطة بالعمّ أنس (فارس الحلو).
قبض الراحل على متلقّيه في عمله الأوّل «سيرة آل الجلالي»

العمل كان استمراراً منطقياً لما بدأه حقي من سرد عن حلب مع السيناريست البارع نهاد سيريس في «خان الحرير 1/2» (1996/ 1998) و«الثريا» (1997). لاحقاً، أعاد خليفة التجربة مع حقي، في دراما اجتماعية معاصرة حجزت مكانها الثابت لدى الأسرة السورية بدون حواجز أو منغّصات، ومع سلسلة حلقات بشخصيات ثابتة وأحداث متبدّلة، أي العمل المتصل المنفصل «قوس قزح» (2001). تابع خالد الكتابة للتلفزيون خلال العقدين الأوّلين من الألفية الجديدة، فقدّم «ظلّ امرأة» (إخراج نذير عوّاد 2007) و«زمن الخوف» (2007 إخراج إيناس حقّي) و«هدوء نسبي» (2009 إخراج شوقي الماجري)، فيما آخر ما كتبه «العرّاب - نادي الشرق» بالاشتراك مع أحمد قصار (2016 إخراج حاتم علي). ورغم أن معظم تلك الأعمال لم تحقق الصدى الذي اعتادته على الأقل رواياته، إلا أنه بعمل واحد قلب المنقلة وقال بثقة المبدع إنه كاتب تلفزيوني لا يمكن أن يشقّ له غبار في «المفتاح» (2012 إخراج هشام شربتجي). العمل الاستثنائي الذي لم تتح له فرصة التسويق اللازمة لأنه كان من «إنتاج المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي»، قدّم مقترحاً لافتاً لفكرة الاحتيال على القانون والتلاعب به من خلال هفواته وعثراته، وتمكّن مخرج العمل الراحل مع فريقه ونجومه من صوغ الورق كما ينبغي.
على أيّ حال، انتهت القصة ولن يبصر النورَ الفيلمُ الذي كان يتفاوض أخيراً مع منتجة عراقية كندية على ملامحه الأولى. لذا سنعوّل دائماً على الرواية أكثر من التلفزيون، ثم ستسقط كلّ جمل العزاء وتتلاشى الصور والنعوات، فهذه الليلة بالذات سيكون «هاني بار» متّشحاً بقسوة العتم وجلافة الحداد، ليس لأن «القصّاع» أبهى أحياء دمشق، تنام وتصحو على خوف قاتم منذ مطلع «العشرية السوداء»، بل لأن الغياب يطال هذه المرّة «عرّاب الفرح» وصديق الجميع ونديم مدينة كاملة وعريقة بحجم الشام!