دمشق | لو صدقت الروايات الدينية عن تيقّظ الأرواح ومراقبتها بدقّة لما يجري بعد الانطفاء مباشرة لدرجة اعتقاد الميّت أنّه أحد المشيّعين، فلن يكون هناك داعٍ لكلّ ما كُتب ونُشر عن خالد خليفة (1964 ــ 2023)... ذلك الروائي والسيناريست الذي يُعدّ إحدى علامات الفرح الفارقة في دمشق. كان يكفي لكلّ من يريد معرفة كيف يشيّع المبدع، خصوصاً إذا عاش متوّجاً بالحب، أن يمرّ بالعاصمة السورية صباح أول من أمس. ولكي يكتمل المشهد الجنائزي في الشام، كان الطقس خريفياً كئيباً. الرحلة الأخيرة لصاحب «مديح الكراهية» ستنطلق من أطراف العاصمة، وتحديداً من «مستشفى العبّاسيين» الذي أمضى ليلته الأخيرة في ثلّاجتها! هناك سيقف أهالي الأبنية والمحال التجارية المجاورة بذهول واضح.
(من الويب)

عيونهم تتكلّم من دون أن ينطقوا حرفاً واحداً، وكأنّهم يسألون: «من توّدعون اليوم حتى يخيّم حزنكم علينا من دون أن نعرفه؟».
هذه المرّة فقط سيستقلّ «أبو خلّوف» سيارة غير سيارة «الشعب» (سواء الأوكتافيا الفضّية القديمة، أو الفولكس فاغن السوداء الأخيرة) التي كان الجميع يعرفها بهذا الاسم، لأنّها تدخل في آخر كلّ سهرة الأحياء الفقيرة والأزقة الشاحبة، لتوصل جميع من كان برفقته على «السكرة» ولا يملكون ربّما ثمن أجرة تاكسي للعودة إلى البيت، أو لا يمكن لنديمهم أن يتركهم في وقت متأخر من دون توصيلة. هذه المرّة، السيارة أوسع ولونها أبيض مثل الكفن تماماً، وقد كُتب على مقدّمتها بالأسود العريض جملة: «الله أكبر»! ما القصة يا خالد؟ متى هبط عليك كلّ هذا الإيمان فجأة؟ أم أنّها مجرّد مزحة، سنسمع ضحكتك عليها قبل أن تنهيها ونستفيق معاً؟ نسأل أنفسنا عبثاً من دون جدوى أو ردّ من صاحب «سيرة آل الجلالي»، لينهرنا صوت أحد الأصدقاء فيعيدنا إلى صوابية الفكرة المُرّة المتمثّلة بالموت، وهو يقول إنّنا سنكشف عن وجهه ليتمكّن الجميع من إلقاء نظرة الوداع! إذاً خالد ليس معنا وهو الميّت فعلاً. بعض العيون ترتفع إرادياً إلى السماء لا للدعاء فقط، بل لأنّها لا تريد أن تحتفظ إلا بصورة وجهه وهو يضجّ حياةً كما عوّد الجميع.
حتى الآن، لا يكفي حجم الجموع الموجودة لاحتفالية عارمة تشبه روح خالد خليفة. لكن بمجرّد الوصول إلى جامع «لالا باشا»، ستزداد أعداد المشيّعين وسيحضر مزيد من أهل الثقافة والفنّ. ستنتهي مراسم الصلاة، وسيخرج النعش مجدداً إلى الضوء ليباغته المشهد المهيب: تصفيق الجموع المكلّل بالبكاء الشديد. التصفيق الحار مع الرؤوس المنخفضة باحترام مشوب بالخجل والحزن، سيربك صاحب «لم يصلِّ عليهم أحد»، وهو يرى كيف تشيّعه الشام بأسرها وبكلّ ما تبقّى فيها من صدق ومهابة وقلب أبيض ناصع. سيلفّ الموكب المدينة المزدحمة ليصل إلى سفح جبل قاسيون. «مقبرة التغالبة» في «المهاجرين» هي المثوى الأخير. صعوبة الوصول إلى المكان لا تثني الأصدقاء عن مواصلة الرحلة الأخيرة مع همهمة تدور بينهم بوجل صريح: «حسناً سيرى دمشق كلّ صباح ومساء من ملكوته الأخير... هذا مجرّد مكان رمزي، فروحه هائمة وستبقى في خمّارات المدينة ومقاهيها وأحيائها تجول لتلقي التحية كلّ يوم». هنا، سيتذكّر الجميع أنّه كان يمكن لخليفة أن يهاجر ويعيش في بلد يحترم مبدعيه. لفّ نصف الكرة الأرضية أثناء الحرب وكان يعود إلى دمشق: «كي يأخذ حصّته من العار ولا يحكي له أحد عن وجع شعبه»، كما يقول في حوار مع «هيئة الإذاعة البريطانية» تمّ تداوله بكثافة شديدة في الساعات الأخيرة. لكن مهلاً! هناك من يسخر من صمت الإعلام الرسمي المطلق، ومن يحتاج إلى خبر بليد ولو على صفحات الوكالة الرسمية للأنباء، بينما تضّج حسابات كل السوريين بصورة الروائي والسيناريست الماهر. أما في خصوص التهمة الوضيعة بأنّه «جاسوس» لـ «وكالة المخابرات المركزية» (CIA) لأن هناك مَن عثر على ورقة تثبت أنه أجرى دورة في إحدى الجامعات الأميركية، فتلك روايات «عقارب» أصابها «العمى» بحمى الانحدار لأسفل الدرك. عاش خالد خليفة كما يريد من دون أن يفكّر يوماً في الموت، لأنّه ابن الحياة البار بكلّ تناقضاتها وتجليّاتها. اليوم كلّ ما في الأمر أنّه أغمض عينيه وترك وراءه منجزاً أدبياً وفنياً رفيعاً يحكي عنه إلى الأبد، عدا عن سيرة إنسانية تركت أثر العطر الآسر.