لقد تركتنا الأخبار الحزينة مفجوعين تقريباً. على الرغم من أنّ عودته شبه مستحيلة، إلا أنّنا توقعنا مفاجأة من تلك التي عوّدتنا عليها هوليوود، تسمح لنا بالاستمتاع ببروس ويليس للمرة الأخيرة. لكنّ شباط (فبراير) 2023، جاء ليُقفل الباب على كلّ المعجزات. لقد أكّدت عائلة النجم الهوليوودي تشخيصه بمرض «الخرف الجبهي الصدغي» (FTD) الذي يُعيق قدرته على التواصل. جاء الخبر اليقين بعد نحو عام على إعلان عائلته أنّه سيعتزل التمثيل، بسبب إصابته بالحبسة الكلامية، على الرغم من أنه قدّم 11 فيلماً عام 2022، وفيلمَيْن عام 2023، لم تكن على قدر التوقعات.
أسس «ماكلاين» لشخصيات أبطال أفلام حركة تمزج الأكشن بالكوميديا

رسمياً، أسدل المرض الستار على مسار حافل بالأكشن والكوميديا والدراما، بدأه والتر بروس ويليس المولود عام 1955 في مدينة تقع في ألمانيا الغربية آنذاك. ابن الموظفة المدنية الألمانية والجندي الأميركي، انتقل مع عائلته إلى نيوجيرسي عام 1957، بعد نقل والده إلى قاعدة عسكرية هناك. اكتشف التمثيل على خشبة المسرح التي تعلّق بها، وخصوصاً عندما أصبحت بمثابة طبيب عالجته من التلعثم الذي كان يعانيه. من خلال أدواره على المسارح الصغيرة والوظائف الأصعب ذات الدخل الأعلى، مثل حارس أمن لإحدى المنشآت النووية، حاول ويليس شقّ طريقه إلى الشاشة الكبيرة، فشارك في ثلاثة أفلام ككومبارس من دون ذكر اسمه («الخطيئة المميتة الأولى»/ 1980، و«عين غورو كومت»/ 1980، و«الحكم الثنائي» لسيندي لوميب/ 1982). وفي عام 1985، شارك في تجارب أداء مسلسل «مونلايتينغ» (1985 ــ 1989)، ما جعل مديري اختيار الممثلين ينسون أمر المقدمين الثلاثة آلاف الآخرين. استمر التوتّر الرومانسي بين المحققين في المسلسل (بروس ويليس وسيبيل شيبيرد) لمدّة خمسة مواسم ناجحة، ليصبح أحد أكثر المسلسلات الرومانسية الكوميدية مرحاً، وبفضله حاز ويليس جائزتي «غرامي» و«غولدن غلوب» لأفضل ممثل تلفزيوني عام 1987. وصلت الكاريزما إلى المدينة. المكالمة الهاتفية غير المتوقعة من شركة «سيغرامز» (كانت من أكبر شركات المشروبات الكحولية)، جعلت من ويليس صورتها الإعلانيّة عام 1986 مع شارون ستون. وقتها، رأت شركات الإعلان والإنتاج أنّ الممثل هو الفتى العصري الجديد. حتى أنّ المخرج الكبير بليك إدواردز، لم يكن قادراً على مقاومة سحره، فقدّمه مع كيم باسينغر كبطل فيلمه «بلايند دايت» (1987). في الفيلم، لم يسلم أحد من تملّق ويليس، حتى المخرج نفسه. لم يحظ هذا التعاون بدعم الجمهور تماماً، ولكنّه كان بداية بروس الحقيقية. في عام 1987، ظهر في «عودة برونو» كمغنٍ للمرّة الأولى برفقة أساطير، مثل بوكر تي جونز وروث بوينتر و«ذا تمبتيشينز»، مع أغنية Respect Yourself. أوصل مزيجه البهيج من إيقاع البلوز والسول الأغنية إلى المرتبة الرابعة عشرة في قائمة «بيلبورد» في ذلك العام، ما سمح له بأداء عدد لا بأس به من العروض الحيّة. حدث كل هذا أثناء انضمامه إلى المشروع الذي سيُغير حياته نهائياً، عندما رأى فيه المخرج جون مكتيرنان، وجه المحقق «جون ماكلاين»، بطل فيلم «داي هارد» (1988).
في الطبقة الخامسة والثلاثين من «برج ناكاتومي»، هناك أربعون رهينة محتجزة وعشرون إرهابياً، و«جون ماكلاين» (بروس ويليس) حافي القدمين. يعتبر «داي هارد » نموذجاً لأفلام الحركة. نحب هذا الشريط ولا نستطيع ألا نستمتع عند مشاهدته. رؤية «ماكلاين» يقضي على جميع الإرهابيين بأسلوبه لها نكهة خاصة. إنّه البطل الساخر الكاريزماتي الذي يتمتع بقوة استثنائية. «داي هارد» أحد الأفلام التي تثيرنا أحداثها، ليس لأنّه عمل عظيم، بل لأنّه بكل بساطة مختلف، تماماً كشخصية «جون ماكلاين». ومن دون بروس ويليس والمخرج جون مكتيرنان، لم نكن لنتذكّر هذا الفيلم. «جون ماكلاين» أحد أهم أبطال أفلام الحركة في تاريخ السينما. سنظل نتذكّره باعتباره الرجل القوي المثالي الذي نعتمد عليه دائماً.

قدّم له تارانتينو هدية مثالية في فيلم Pulp Fiction

هو «جون واين» العصر الحديث: الجوهري الصادق الذي يسكنه «الخير الوطني الأميركي»، فيما يتشارك مع «واين» بطريقة ما معتقده السياسي. فهو يمينيّ إلى حد كبير. في «داي هارد»، كان الشرطي الوحيد الذي يقتل الإرهابيين واحداً تلو الآخر، ويلقي بكلّ القواعد والإجراءات المتبعة في الكتب من النافذة. القصة مقتبسة من رواية «لا شيء يدوم إلى الأبد» (1979) للكاتب رودريك ثورب، ولكن ما حققه مكتيرنان وويليس في الشريط فاق كل التوقعات. لقد أسّست شخصية «ماكلاين»، المرتبطة بويليس إلى الأبد، لشخصيات أبطال أفلام حركة التي تمزج الأكشن بالكوميديا حتى يومنا هذا. قلّد كثيرون هذه الوصفة ونجح بعضهم، لكن لم نشعر مع أي منهم بأنّه حقيقي مثل ويليس.
«جون ماكلاين» هو كل رجل عالق في موقف لا مفرّ منه. ذكاؤه ومثابرته الغريزية يبقيانه على قيد الحياة بغض النظر عن مدى تفاقم الموقف. بطريقة ما، هو البطل الحقيقي اليومي تماماً مثل «باغز باني». يشقّ طريقه ساخراً عبر الانفجارات والرصاص والزجاج المكسور. يتجوّل وهو يتحدّث مع نفسه. ويليس لم يكسر الجدار الرابع، ولكن مع شخصية «ماكلاين»، هذا الجدار شفّاف للغاية، يمكننا من خلاله رؤية ويليس يغمز تقريباً. بروس ويليس نقيض لأناقة «جيمس بوند» وبنية أرنولد شوارزنيغر. هو أقرب إلى عامة الناس، وكان الرجل المناسب في الوقت غير المناسب. أحببناه عندما أرسل رسالة HO HO HO إلى الإرهابيين، ومعاناته في العثور على حذاء. كانت كاريزما بروس ويليس ونبض سرد جون مكتيرنان السبب الرئيسي لتحويل هذا الشرطي العادي إلى أحد أبطال الحركة الأكثر شعبيةً، والأعلى أجراً في هوليوود في وقت ما.
كانت الثمانينيات سنوات الذروة لأفلام الحركة، كما هي الحال لأبطال هذا النوع الذين كان معظمهم مفتول العضلات مثل أرنولد شوارزنيغر وسيلفستر ستالون. ومن جهة ثانية، تميّز الأبطال الآسيويون بقيادة جاكي شان بمهارات قتالية فنية، وأدخلوا اللياقة البدنية إلى الأفلام. ثم جاء بروس ويليس البطل العادي الذي يواجه مواقف غير عادية وخارجة عن إرادته. رجل غير منحوت البنية، من دون ترسانة عسكرية وأسلحة كبيرة، يتعرّض للضرب كثيراً، ولكنّه كاريزماتي مضحك ومحصّن بغريزة البقاء فقط. في كثير من الأحيان، كان الذئب الوحيد المثالي، يعمل خارج المؤسسة ويواجه الأشرار بمفرده. مع رجولتهما الهائلة وبنيتهما الرخامية المنحوتة، استحضر سلاي وأرنولد دائماً الشعور بأنّهما آلهة تتجاوز حقيقة الإنسان. كان سحر نجم ويليس هو الافتقار إلى هذا الوهم. كان بطلاً تفوح منه رائحة العرق، مسلّحاً فقط بغريزة الإنسان للبقاء على قيد الحياة. بعد «داي هارد» الأوّل، عُرضت خمسة أفلام لويليس بدور «ماكلاين»، آخرها عام 2013، لم تكن على قدر التوقعات والآمال باستثناء فيلمDie Hard With Vengeance» الصادر في عام 1995، مع عودة جون مكتيرنان كمخرج. «أنا سعيد جداً لأنّهم يستمرون في مطالبتي بإصدارات جديدة لفيلم «داي هارد»، وتجسيد شخصية «جون ماكلاين» مرّة أخرى»، اعترف ويليس في إحدى المقابلات. وأضاف: «الشريط الأوّل هو الأجمل... وهذا كل ما يجب أن يكون عليه الأمر. كل فيلم جديد، يحاول أن يكون جيداً مثل هذا الفيلم».
أسّس نجاح «داي هارد» ويليس كممثل. الاستمتاع وكسب أرباحاً ضخمة، لم يمنعه من إعطاء صوته للطفل في فيلمَي «أنظر من يتحدّث» (1989) و«أنظر من يتحدث أيضاً» (1990). كان كل شيء يسير على ما يرام أثناء العمل تحت قيادة بريان دي بالما في فيلمBonfire of the Vanities الصادر في عام 1990، إلى درجة أنه اجتمع مع زميليه، وسألهما: لماذا لا نفتح مطعماً؟ الزميلان هما أرنورد شوارزنيغر وسيلفستر ستالون، وسلسلة المطاعم بالطبع كانت «بلانت هوليوود». أمضى الثلاثة وقتاً ممتعاً في البداية، لكن الصعود والهبوط في حياتهم المهنية والحرارة المتولّدة في كل مرة يجتمعون، جعلت التعايش صعباً.
كان بطلاً تفوح منه رائحة العرق ومسلّحاً بغريزة البقاء


كان الأداء في أفلام «الصقر الكبير» (1991) لمايكل ليمان و«لعبة هوليوود» (1992) لروبرت ألتمان و«الموت يناسبك جيداً» (1991) لروبرت زيميكيس، أسوأ بكثير مما يستحق، ولكن على الأقل كان قلبه مرتاحاً. والفيلم الأخير رسّخه أيضاً نجم أفلام الكوميديا. رسخت أفلام مثل The Last Boy Scout (عام 1991)، حالة ويليس كبطل حركة مختلف عن البقية. نُسي الممثل ظلماً في الجوائز الكبرى، واستمرّ في منحنا شخصيات نتذكّرها في تحف سينمائية مثل 12 Monkeys لتيري غيليام (1995)، و«العنصر الخامس» (1997) للوك بوسون و«الحاسة السادسة» (1999) لإم. نايت شيامالان. وبين كل هذا، أصبح أحد أعمدة السينما التجارية، ولمس كويكباً في فيلم «أرماغدون» (1998) لمايكل باي. قدّم المخرج كوينتن تارانتينو، لويليس هدية مثالية وسمح له بالتباهي بشرعيته كممثل في فيلم Pulp Fiction (عام 1994). قال «بوتس» (ويليس) لصديقته وهو يركب عجلة «هارلي ديفيدسون» المسروقة: «لقد مات «زد» عزيزتي، مات «زد»». سطر بسيط أعاد لنا ويليس الذي نحبّه في فيلم وشخصية وجملة لا يمكن أن ننساها. بعد هذا الفيلم، عاد ويليس إلى غزارة الإنتاج، إذ قدّم سنوياً ثلاثة أفلام على الأقل، ومجملها لا يُذكر. لعب دور رجل المافيا في فيلم The whole Nine Yard (عام 2000)، وعاد بشخصية المحقق في سلسلة أفلام Red.
تحوّل ويليس من رجل شباك تذاكر وأيقونة سينمائية إلى ممثل في أفلام من الدرجة الثانية، يصعب العثور على اسمه في عناوين الأشرطة الكبيرة. ولكنّه اليوم أصبح معروفاً كيف واجه الممثل العلامات الأولى لمرضه بغزارة الإنتاج وعدم الاهتمام بالسيناريو وضمان مستقبل مالي لعائلته الكبيرة: أولاده الخمسة (رومر وسكاوت وتالوله ومابيل وإيفلين) وزوجته السابقة الممثلة ديمي مور التي لا تزال تجمعها به علاقة حب واحترام كبيرين وزوجته الجديدة إيما هيمينغ. لا يزال ويليس صورة لبطل هوليوود الذي لم يكن يوماً «ترمينايتور» ولا «رامبو»، بل إنساناً استثنائياً.
وعلى الرغم من أنّه كان يفترض أن تكون أفلامه الأخيرة في عامَي 2022 و2023، وداعاً ملحمياً لهذا الممثل المحبوب، إلا أنّها مرّت من دون أثر يُذكر، بل بألم كبير أكثر من أمجاد. حاول كثيرون تلطيخ اسم بروس ويليس، وخصوصاً مع المشكلات الصحية التي يواجهها اليوم. لكن بغض النظر عن كل هذا، يعدّ بروس إحدى أهم علامات هوليوود الجديدة. نجم لا يمكن إنكاره، أحد أكثر الممثلين تنوّعاً وإقبالاً في جيله. وبما أنّ ويليس و«السيّد ماكلاين» سيظلان في ذاكرتنا وذاكرة السينما إلى الأبد، فلنصرخ Yippee ki-yay على شرفه!