في مفاجأة سارّة للأدب الإسكندنافي بشكل خاص والمنتمي إلى شمال الكرة الأرضية بشكل عام، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم أمس عن منح الجائزة لهذا العام عن فئة الأدب للكاتب النرويجي يون فوسه، البالغ 64 عاماً، «تقديراً لأعماله المبتكرة في مجال المسرح والنثر التي تعطي صوتاً لكل ما هو مضمر ومكبوت». كما وصفته بأنه «واحد من أكثر الكتّاب المسرحيين شهرة وانتشاراً على نطاق واسع في عصرنا». وقال أندرس أولسون، رئيس لجنة نوبل للأدب في الأسباب الموجبة لاستحقاق فوسه الجائزة: «أعمال فوسه الهائلة، التي تمتد عبر مجموعة متنوّعة من الأنواع، تضم حوالي 40 مسرحية ومجموعة ثريّة من الروايات ومجموعات الشعر والمقالات وكتب الأطفال والترجمات. يمزج فوسه بين جذوره في اللغة والطبيعة النرويجية والتقنيات الفنية لمرحلة ما بعد الحداثة». فوسه هو رابع كاتب نرويجي يحصل على هذه الجائزة بعد بيورنستيرن بيورنسون (1903) وكنوت بيدرسن هامسون (1920) وسيغريد أوندسيت (1928). وُلد سنة 1959 في هاغسوند، على الساحل الغربي للنرويج. الكاتب المفتون بلغة بلاده، وقع في قوتها الساحرة والموسيقية. نشر نصه الأول «أحمر، أسود»، في سن الثالثة والعشرين بأسلوب السهل الممتنع: نوع من الكتابة المينيمالية، المصفّاة على آخرها من الحشو والإسهاب في خدمة حبكة أو عقدة سردية مختصرة هي الأخرى إلى شكلها الأبسط لكن الأعمق، حيث تطرح أكثر الأسئلة الوجودية عمقاً في قالب لا يحمل الأبطال فيه أسماء في بعض الأحيان، وإنما قد يشار إليهم بضمير الغائب أو المخاطب. تقنية لا بد من أن فوس قد استعارها من شغفه بالمسرح.انتظر بعدها عقداً من الزمن لتكرّ سبحة أعماله الغزيرة، وينشر نحو 15 نصاً نثرياً من «غيتار مُغلق» (1985)، و«تجديد القوارب» (1989)، أو «الرصاص والماء» (1992) إلى «ميلانخوليا» (1995) كتابه المهم الذي أكسبه احترام النقّاد، قبل أن يشرع في كتابة النوع الأثير الذي جعله مشهوراً عالمياً: المسرح.
في عام 1994، أنجز فوسه أول عمل مسرحي له بعنوان «وأبداً لن نفترق» الذي شقّ طريقه ببطء ولكن بثبات إلى مسرح Théâtre de l›Œuvre الباريسي العريق عام 2013 بإخراج مارك باكيان. منذ صدور نصّه الأول، اعتاد قراؤه على وتيرته السريعة في الكتابة بمعدّل كتاب كل سنتين تقريباً، وأحياناً بمعدّل عملين في السنة الواحدة، إذ تتالت أعماله بين «والليل يغني» (1997) و«تنويعات على الموت» (2001)، و«الكلاب الميتة» (2004)، و«الأيام تمضي» (2005)، و«أنا الرياح» (2007)... بما يقارب ثلاثين عملاً في عشرين عاماً، ونصوص مسرحية تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، توزّعت عروضها على جميع أنحاء أوروبا وتوالى على إخراجها أبرز المخرجين أمثال باتريس شيرو، جاك لاسال، كلود ريجي، وتوماس أوسترماير.
الكاتب الحائز «جائزة أبسن الدولية» عام 2010، و«الجائزة الأوروبية للآداب» عام 2014، إضافة إلى «وسام القدّيس أولاف الملكي» عام 2011، وهو أعلى امتياز في النرويج، عرفته المكتبة العربية عبر عملين صدرا عن «دار الكرمة» المصرية: الأول «صباح ومساء» (2020) بترجمة أمل رواش حيث يأخذنا فوسه في سؤاله عن معنى الحياة والعيش بين يوم ولادة الطفل «يوهانس» في قرية صيادين نرويجية، وآخر يوم في حياة الصياد العجوز «يوهانس».
أعماله المبتكرة في المسرح والنثر تعطي صوتاً لكل ما هو مضمر ومكبوت

إنها في الظاهر رحلة حياة عادية، يسردها يون فوسه ببساطة خادعة، فنعيش تفاصيلها الصغيرة لنكتشف أنها تطرح أحد أصعب الأسئلة عما يبقى في الوجود الإنساني عندما ينطفئ كل شيء حتى الوعي. تدور أحداثها في الريف النرويجي بأساطيره المؤسسة التي تنافس أساطير الإغريق والسومريين وغيرهما من جهاز الأساطير العالمية بآلهتها وأبطالها ونفاذها إلى المعاني الإنسانية العريقة. تتناول الرواية الثانية «ثلاثية» الصادرة هذا العام بترجمة شيرين عبد الوهاب وأمل رواش، قصة غرامية يختلط فيها الحبّ بالأسى. وفي وقت تفترض النمطية السائدة بأن العالم الشمالي يفترض أن يكون واحة للترفيه في «قلب الجنة الإسكندنافية»، يصوّر لنا فوسه عاشقيْن تائهيْن يحاولان السكنى بمشقّة في هذا العالم، ويهيمان على وجهيهما في شوارع مدينة بيورغفين تحت المطر، مشرّدين بلا مأوى، مع كل ما يحمله الفقر وعالم المدن السفلي من بواعث على التعاطف والفداء والظلم والجريمة. حبكة يوظّف فوسه توليفتها من الترسانة الثقافية الهائلة لبلاده من رموزها الثقافية والشعرية والأسطورية والروحية، واستحضار مكثّف ومؤثّر للحب في «أدب مكثّف ومحموم يكشف شيئاً فشيئاً عن العواقب التي تنتظر أولئك الذين يضحّون بضمائرهم من أجل الحب» كما وصفتها صحيفة «الأفتنبوستن» الذائعة الصيت في بلاده. كما حظيت الرواية بالكثير من الثناء عالمياً، إذ وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أسلوب فوسه بأنّ له «بساطة شعرية شرسة».
منح جائزة نوبل لفوسه هذا العام يعيد التأكيد على نقاط مهمة ثلاث: أولاها، ضرورة انطلاق أي أدب عالمي من بيئته المحلية بأصالتها ولغتها وتقاليدها وأساطيرها كشرط وجودي للوصول إلى العالمية، وثانيتها أن أعمق الأسئلة الوجودية حول المعنى والحياة والموت ربما تأتي من منطقة البؤس كما من منطقة الرخاء في الوجود الإنساني بغضّ النظر عن العرق والدين والجغرافيا. أما النقطة الثالثة فتكمن في «البساطة الشعرية الشرسة»: امتزاج الشعر ولغته بالرواية والمسرح يضفي على هذه الفنون نفحة من عالم الغيب، إذا كانت الرواية بامتياز تنتمي إلى عالم الشهادة.