ليست رواية «تفصيل ثانوي» الصادرة عن «دار الآداب» عام 2017 تفصيلاً ثانوياً في الصراع بين أحرار العالم والعدو الغاصب وكل شذّاذ الآفاق الداعمين له والمروّجين لأكاذيبه بأنه قدم إلى فلسطين، لينشر في ربوعها السلام والمدنية والديموقراطية: إنها رواية الفتاة القاصر التي اغتصبها فصيل كامل من الجند، وانتزعتها شبلي من بطن الأرشيف الإسرائيلي بعد محاولات طمسها وإصدار الأحكام المخففة على مرتكبيها، هي صوت الضحية الذي أثار حفيظة الجهة المنظّمة لـ «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب» التي حاولت التعتيم عليها عبر إلغاء فعالية التكريم للعمل الفائز بجائزة «ليبراتور». بعدما وصفتها اللجنة الأدبية الألمانية بأنها «عمل فنّي محترف يعالج مسألة الحدود والصراعات، وما تحفره الصراعات الدموية في كينونة الإنسان»، أفاق رئيس «معرض فرانكفورت للكتاب» يورغن بوس على أنه يريد «إفساح المجال لعدد من الأصوات المؤيدة للصهيونية»، وأسهمت الصحف الألمانية الموالية للصهاينة مثل صحيفة «تاز» بالهجوم على الرواية، فوصفت تكريم شبلي وسط «قطع حماس لرؤوس الأطفال الإسرائيليين» كأنه توزيع للحلوى احتفاء بـ«المجزرة». وساقت التهمة الممجوجة بمعاداة السامية للكاتبة المتحدرة من عرب الشبلي في فلسطين التي أصدرت عدداً من الروايات منها «مساس» (٢٠٠٢)، و«كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» (٢٠٠٤)، والتي كانت من ضمن فريق الشاعر الراحل محمود درويش في تحرير مجلة «الكرمل» والحائزة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في المملكة المتحدة: ننشر في «كلمات» فصلاً من الرواية، ليصل صوت فلسطين المغتصبة إلى كل العالم، كي لا ننسى، ثأر تلك الفتاة التي اغتصبوها ونبشوا قبرها وأعدموها مرتين، لكنّ ثأرها آتٍ لا محالة.
الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي


كانت يده اليمين لا تزال تسدّ فمها، لعابها اللزج ينحبس بين أصابعه، عندما فتح جفنيه. ربَّما نام نصف ساعة، ليس أكثر. وقد بدرت للحظة قصيرة رعشةٌ في أصابعه التي كتمت فمها، لكنَّها اختفت في الحال. كان الارتجاف قد زال الآن تماماً من جسمه. بقي في الوضعيَّة ذاتها من دون حراك، فيما هي هامدة تحته حتى غفا ثانية.
لكنَّه صحا بعد مدة وجيزة. رفع نصف جسمه العلويّ قليلاً، وسحب يده اليمنى من على شفتيها ومدّها إلى صدره متحسِّساً نقطة طَبَعها فوقه أحد أزرار قميصها المرفوع حتى أعلى صدرها. هي لا تزال ساكنة تحته، يده اليسرى تتشبّث بثديها الأيمن. أعاد يده اليمنى إلى فمها مُحكِماً إيَّاها فوقه، وراح يعمّ الفضاء، إضافة إلى صرير السرير وعواء الكلب في الخارج، ضوء الفجر الذي بسط خيوطه الباردة في أرجاء الغرفة على مهل.
■ ■ ■

غزا أجواء الغرفة خليط من الروائح النتنة، تغلغلت في مواضع مختلفة من أنفه وحلقه، وأمكنه التمييز فيها رائحة الوقود القادمة من شعرها، يلتحم فيها طعم حموضة كثيف، فيه طرف خفيّ من الحلاوة، وفد من أسفل بطنه، كما حمل في نهايته رائحة حرِّيفة خدشت أذنيه بحرقتها الحادة. وفوقها مجتمعة، استقرت رائحة باردة تشوبها الزنخة، انبعثت من وجه الفتاة الخامد. ثم بدأ اللعاب يندفع إلى مؤخرة حلقه ولسانه، فقفز من الفراش دافعاً برأسه إلى الأعلى، تناول قميصه وسرواله الموضوعين على الكرسي وارتداهما بسرعة، ثم هرع نحو الباب الذي تسلّلت خطوط ضوء رفيعة عبر شقوقه. شدّ الباب فاتحاً إيَّاه، ثم دفع برأسه خارج إطاره وسحب نفساً عميقاً. وقد وثب الكلب، الذي كان مستلقياً في الخارج، على أطرافه في اللحظة التي انفتح الباب فيها، وبدأ يعوي وهو يقفز ويدور فوق الرمل بخُطى ماثل هدوؤها هدوء انتشار ضوء الصبح فوق المعسكر.

1949: فتيات فلسطينيات فقدن أهاليهنّ ووُضعن في ميتم في بيروت. أرشيف المتحف الفلسطيني

كان الفجر قد انقضى تقريباً وحلَّ الصبح بهوائه الطريّ، غير أن طبقة خفيفة من الغيوم امتدّت في الجهة الشرقيَّة من السماء، سترت أشعّة الشمس الباكرة، فبدا المشهد في ضوئها الشاحب مائلاً إلى الرماديّة. جال هو بعينيه في أنحاء المعسكر الذي توزّع الجنود فيه عند عدَّة نقاط مراقبة، بينما الجنديّ الذي فُوِّضت إليه مهمّة حراسة الفتاة، واقف قرب مدخل السقيفة الثانية، فهتف نحوه طالباً منه الحضور فوراً.
حين وصل الجندي، أمره أن يدخل الغرفة وينقل الفتاة من هناك إلى السقيفة الثانية، مضيفاً بأن رائحتها نتنة. بعد لحظات، علا صوت احتكاك أطراف السرير الحديديَّة بأرضيَّة الغرفة، صوتٌ حادٌّ يصمُّ الآذان، ثم ازدادت حدَّته مع اقتراب السرير من مدخل السقيفة، لكنَّه خفَّ فجأة حين انغرست أقدام السرير الأماميَّة في الرمل، ثم اختفى تماماً.
راح الجنديّ الحارس يجاهد في سحب السرير الذي ما انفكَّت قوائمه تنغرس في الرمل بين كلِّ فينة وأخرى، إلى أن حضر جندي آخر لمساعدته. وقد لحقهما الكلب، ماشياً وفقاً لسرعة نقلِهما السرير بمحاذاة الفتاة، التي ظلّت مغمى عليها، جسمها يهتزُّ مع إيقاع حركة الجنديَّين.
دخل عائداً إلى سقيفته، التي واصل فضاؤها يفوح بالروائح النتنة، ما دفع باللعاب إلى حلقه ثانية، فدار بسرعة إلى الخارج، ووقف عند مدخل السقيفة، مستنشقاً بعض الهواء النقي، فيما انصرف يتابع بنظره الجنديَّين اللذين حملا السرير، والكلب يتبعهما. حين بلغا السقيفة، وضعا السرير أمام بابها، ثم اتجه الجندي الحارس صوب خزَّان المياه وفتح الحنفيَّة الموصولة به، تاركاً الماء يتدفَّق منها إلى داخل السطل الموضوع أسفلها تماماً. بعد برهة، أغلق الجنديُّ الحنفيَّة وحمل السطل عائداً باتِّجاه السقيفة الثانية. وما إن وصلها، حتى سكب الماء في السطل على جسم الفتاة الهامد فوق السرير، ففرَّ الكلب مبتعداً مع تطايُر بعضه باتِّجاهه، وكذلك على الرمال التي لم تسمح للماء بالسيلان فوقها، إنَّما كعادتها تلقّفته بشرهٍ إلى جوفها. لكنَّه ترك خلفه رقعاً صغيرة من الرمل المتخثِّر، التي سوف تختفي قريباً، فقد بدأ ضوء شمس الصبح الناعم باختراق الغيوم الشفّافة في الجهة الشرقيَّة، والتي كانت في طريقها إلى الزوال أيضاً. سحب الجنديَّان السرير إلى داخل السقيفة الثانية، ثم خرجا وأقفلا الباب خلفهما. ورجع هو إلى داخل سقيفته، وأغلق الباب وراءه.
غير أنَّ الرائحة النتنة ما زالت هناك، وقد دفعته إلى الباب من جديد، ليفتحه حتى نصفه، عسى أن يعبر هواء الصبح النقي والضوء الخافت إلى داخل السقيفة. شرع يعيد ترتيب الأثاث في الغرفة إلى ما كان عليه في السابق، جارّاً الطاولة والكرسيَّ إلى وسطها بجهدٍ بانت معالمه في انكماش وجهه. بعدها، اتّجه نحو صفيحة الماء وسكب نصف محتواها في الوعاء، ثم حمله إلى الطاولة. عاد وتناول المنشفة الصغيرة، ثم قطعة الصابون التي قرّبها من أنفه، مستنشقاً رائحتها بينما هو يقتربُ من الطاولة. خلع قميصه ووضعه على الكرسي، ثم بنطاله، وفجأة جمدت حركته. كان الورم فوق فخذه قد انبجس، وأضحى موضع اللسعة فجوة من اللحم المتآكل المتعفِّن، الذي امتزج فيه القيح الأبيض والزهريّ والأصفر، وفاحت منه رائحة نتنة حرِّيفة.
■ ■ ■

خطّ عصفورٌ أسود صغير السماء التي ما برحت تشتدّ زرقتها كلَّما ابتعدت الشمس عن حافَّة الأفق الرملي، فيما خطا هو نحو المركبة. عندما وصلها، قفز فوق المقعد خلف المقود، شغّل المحرِّك، وانطلق نحو الجهة الشماليَّة الغربيَّة من النقب.
■ ■ ■

رغم أنَّ منتصف النهار لم يحلّ بعد، لم يمضِ كثير من الوقت حتَّى دفعه القيظ لأن يوقف جولته، فكلّما تقدّمت الشمس في مسيرها نحو قلب السماء، ازدادت حدَّةُ ضرب أشعَّتها التلال، كما ضاعفت حرارتها من ثقل الهواء.
سكن محرّك المركبة، فسما الهدوء الهضاب، كما فاحت رائحة وقود حادّة في الفضاء، بعثت في حلقه الحاجة إلى التقيّؤ مرّة أخرى. ترجّل من المركبة وبدأ يمشي فوق الرمل، متَّجهاً نحو الغرب، وراءه أشعَّة الشمس التي أغارت عليه تلسع ظهره، والأفق أمامه يرتجُّ بعصبيَّة جراء السراب.
واصل مسيره إلى أن انبثقت بعيداً، بين التلال القاحلة، رقعة غطّتها أعشاب جافة، فتوقّف هنيهة، ثم عاد يمشي باتِّجاهها، تسبقه إليها البقع السوداء المتقافزة أمامه، والتي لم تعد الآن تفارق بصره. وحينما وطأت قدماه تلك الرقعة، تلاشى السكون الثقيل الذي غلّف الفضاء، وعلا صوت احتكاك العشب اليابس بقدميه، كما تحطّم بعضه تحتهما.

1949: مخيم فلسطيني في موقع مجهول. فتاة فلسطينية تحمل أخاها في طريقها إلى جلب المياه لعائلتها. أرشيف المتحف الفلسطيني

وقد تنقّلت عيناه أثناء مسيره هذا بين النباتات التي شكّلت رقعة العشب هذه، كان أكبرها بصيلات ضخمة الحجم.
ارتمى فوق منحدر تلَّة واطئة قابلت حقل الأعشاب الجافَّة ذاك، ثم انصرف يحدق في المرتفعات الرمليَّة التي طوقته من جميع الاتِّجاهات، ووقفت المركبة بعيداً في طرفها الشمالي الشرقي. حوّل نظره من المركبة وعلَّقه بتجويفٍ بان في الرمل إلى يمينه، وانطلقت منه وإليه أسرابٌ من النمل العملاق، الذي أعاد ترتيب حبيبات الرمل في أشكال جديدة في حركته السريعة. رفع بصره ثانية نحو بقعة العشب اليابس والسهول الرمليَّة الصفراء المنبسطة أمامه. وفجأة، اجتاحته موجة من الحرّ، انتشرت في جسمه كلهيب النار، ودفعت به إلى الأسفل، ليستلقي فوق الرمل كليَّة. ألقى برأسه على راحته اليمنى، ثم مدّ يده اليسرى إلى قبَّعته ليسحبها فوق جبينه، فداهمت عندها أنفه رائحة الوقود التي علقت بيده اليسرى، مجبرةً إياه على أن يشيح بوجهه جانباً، لتفاديها قدر الإمكان. وقد دار بأنفه بالكامل نحو الرمال، حيث راح يستنشق الهواء الذي ركد فوق سطحها مباشرةً، وتصاعدت منه رائحة خفيفة من الجفاف.
■ ■ ■

رجع إلى المركبة، جلس على المقعد خلف المقود، وصوّب عينيه الثقيلتين نحو كثبان الرمل التي حرق ضوء الشمس المنعكس فوقها وجهَه المتعب. أدار المحرِّك دافعاً بقدمه اليمنى فوق دعاسة الوقود، إلَّا أنَّ المركبة لم تتحرك، إنّما دارت عجلاتها في موضعها داخل الرمل. رفع قدمه عن الدعاسة، أخذ بضعة أنفاس عميقة، ثم داس فوقها ثانية، فقفزت المركبة من موضعها قبل أن تنطلق نحو الجهة الجنوبيَّة الشرقيَّة.
عند وصوله إلى المعسكر، استقبله الكلب عند البوَّابة، موجِّهاً نحوه عواءه الهائج. ترجّل من المركبة، فيما ابتعد بضعة جنود عن السقيفة الثانية، ماشين في اتجاهات مختلفة، أعقبهم جنديّ خرج منها وهو يزرِّر بنطاله بسرعة، شادّاً خلفه الباب الذي لم يكن يحرسه أحد. صاح الضابط منادياً باسم الجنديِّ الذي أوكل إليه مهمَّة حراسة الفتاة، وهو يمشي باتِّجاه السقيفة الثانية. حين بلغها، علا ردّ الجنديّ الحارس قادماً من خلفه، لكن في تلك اللحظة بالضبط، انفتح باب السقيفة وعبرته الفتاة وهي تصرخ وتنحب. دار هو نحو الجنديّ الذي كان الآن على بعد خطوات منه، وطلب منه أن يعيدها إلى السقيفة، فأسرع هذا نحوها وباشر يجرُّها باتِّجاه باب المدخل، إلَّا أنَّها حاولت أن تقاومه وأن تدير رأسها نحو الضابط، الذي دار برأسه إلى الناحية الثانية، متجنِّباً رائحة الوقود التي راحت تتلكّأ خلفها في الفضاء. استمرّت الفتاة في نحيبها وصراخها حتَّى بعد أن أدخلها الجنديّ السقيفةَ. وحين خرج وأوصد الباب خلفه، صوّب الضابط نظره إليه، وأمره بألَّا يتحرّك من مكانه، ثم غادر متَّجهاً نحو سقيفته.
وفي تلك الأثناء، تحوّل عويل الفتاة إلى نشيجٍ بالكاد يمكن سماعه، جاعلاً عواء الكلب يخمد تدريجيّاً.
■ ■ ■

حين دخل السقيفة، داهمت أنفه فوراً بقايا الرائحة النتنة. ترك الباب مفتوحاً، ثم تناول المنشفة الصغيرة المعلّقة بالمسمار، وشرع يضرب الهواء الراقد في الركن الذي احتلّه السرير الثاني الليلة الماضية، محاولاً دفعه مرَّة تلو الأخرى نحو الباب، فخارجه. واصل يجاهد في طرد الرائحة من الغرفة، حتى سقطت المنشفة من يده. التقطها ثانية من فوق الأرضيَّة ثم رمى بها على حافَّة الكرسي، وباشر يمشِّط الغرفة بعينيه من موضعه حيث وقف. بعد لحظات، سحب الكرسي وجلس فوقه، لكنَّه عاد ونهض متَّجهاً إلى الركن الذي استقرَّت فيه حاجيَّاته. سكب من الصفيحة بعض الماء في الوعاء، ثم خلع قميصه، فحذاءه وجوربيه، وبنطاله الذي علق بأطرافه بعض الشوك والقشّ اليابس. تناول المنشفة، بلّلها بالماء، ثم مسح بها قطعة الصابون، ومرَّرها فوق وجهه وعنقه. غسل المنشفة، مسّد قطعة الصابون بها ثانية، ثم مسح صدره وذراعيه. غسلها، مرَّر قطعة الصابون فوقها من جديد، ومسح إبطيه. ثم غسلها ومسح ساقيه دون أن يفكَّ الضمادة عن موضع الجرح. حين فرغ من مسح جسمه بالكامل، غسل المنشفة جيِّداً وأعادها إلى مكانها السابق.

1948: مخيم اللاجئين في دمشق. أرشيف المتحف الفلسطيني

ارتدى ملابسه ذاتها، والتي فاحت منها رائحة عرق خفيفة، مع أنَّ رائحة طيِّبة انبعثت منها كذلك. خرج من السقيفة حاملاً الوعاء، سكب ما فيه من ماء فوق الرمل، ثم أعاده إلى الداخل، واتّجه بعدها إلى السقيفة الثانية.
كان الجنديّ الحارس والكلب يجلسان قرب الباب، لكن حين صار قريباً منهما، وقف الكلب على أطرافه وأخذ يعوي، كما وقف الحارس أيضاً. صوّب بصره أوَّلاً إلى الكلب، ثم رفعه إلى الجنديّ، وأمره أن يذهب ويطلب من نائبه الرقيب والسائق أن يهيِّئا نفسيهما في الحال للخروج في مهمَّة سريعة، ثم أن يعثُر على مجراف ويأتي به إلى المركبة، حيث سيكون بانتظاره. انطلق الجنديّ لتنفيذ ما أُمِر به، بينما بقي هو واقفاً قرب الباب ينظر إلى الكلب الذي هدأ نباحه، وأخذ الآن يغمض عينيه ويدير رأسه، مجيلاً ناظريه في المكان. بعد برهة قصيرة، علت جلبة من جهة خيمة القيادة، فدار هو بنظره نحوها. خرج النائب الرقيب والسائق من فتحتها أوَّلاً، يتبعهما الجنديّ الحارس. وفي حين توجَّه النائبُ الرقيب والسائق نحو المركبة، مشى الحارس باتِّجاه النقطة التي جُمِعت فيها المعدات قرب خيمة القيادة.
■ ■ ■

وقف النائب الرقيب والسائق قرب المركبة، بانتظار الضابط الذي قاد الفتاة أمامه واتجه إليهم، خلفه الكلب، فيما ركض الجنديّ الحارس صوبهم من الجهة الأخرى حاملاً مجرافاً بيده.
في تلك الأثناء، نهض كذلك بعض الجنود من أماكن جلوسهم في ظلال الخيم، وراحوا يتابعون ما يجري أمامهم. كان الهدوء، الذي أثقلته حرارة شمس الصباح المرتفعة نحو السماء، قد عمّ المعسكر، إلى أن علت صرخة أحدهم باتجاه جمع الواقفين قرب المركبة قبل انطلاقهم، طالباً استعادة بنطاله القصير، الذي منحه في الأمس للفتاة كي ترتديه.
تحرّكت المركبة أخيراً، الكلب يجري وراءها محاولاً اللحاق بها من دون جدوى، صوت نباحه يطغى على هدير محركها الآخذ في الابتعاد، حتّى اختفت كليّاً بين الهضاب الرمليَّة. ولم يكونوا قد ابتعدوا كثيراً عن المعسكر عندما أمر السائق بالتوقُّف، معلِّقاً بأنّه لا تتوافر في حوزتهم كميَّات كبيرة من الوقود. هدأ المحرّك، ونزل هو أوَّلاً ثم تبعه الباقون. أمر الجنديّ الحارس بحفر حفرة بطول مترين وبعرض نصف متر في تلك النقطة، مشيراً إلى رقعة من الرمل لم تختلف عن غيرها. وكانت بضع دقائق مضت فقط، حين هوت كفّ المجراف فوق المنطقة التي أشار إليها، شاقَّة بهدوء الرمل، لتحفن أكبر قدر ممكن منه، وتلقي به إلى أبعد نقطة تمكّنت ذراع الجنديّ وعصا المجراف من الوصول إليها.
راحت عمليّة الحفر تجري بسكون يكاد يكون مطبقاً، خلا حفيف المجراف وهو يحمل الرمل ويرمي به، وأصوات متفرِّقة كان مصدرها الجنود في المعسكر تناهت إليهم من خلف التلال، إذ أفقدها البعد حدّتها، وجعلها مبهمة أشبه بالهمهمات. ثم علا صوت صراخ حادّ على حين غرَّة. كانت الفتاة تولْوِل وهي تركض فارّة. ثم سقطت فوق الرمل قبل أن يُسمَع في الفضاء صوت الطلقة التي استقرَّت في الجانب الأيمن من رأسها. وساد الهدوء من جديد.
راحت الدماء تتدفَّق من رأسها إلى الرمل الذي امتصه بغير عناء، فيما تجمّعت أشعّة شمس الظهيرة فوق ردفيها العاريين اللذين كانا بلون الرمل.
ترك الجنديَّ يعمل على شقّ الحفرة، والنائب الرقيب والسائق يقفان قربه، ورجع إلى المركبة. كان يرتجف، حين اقترب السائق منه بعد برهة، وقال له إنَّها ربَّما لم تمت، لا يمكنهم تركها هكذا، يفضَّلُ التأكّد من موتها. استمرّ هو يرتجف، يشلُّه ما يشبه التمزّق في الأمعاء، قبل أن يحرِّك فمه آمراً السائق أن يطلب من نائبه الرقيب أن يقوم بذلك. بعدها بقليل، انطلق في الفضاء صوت ستّ طلقات، ثم حلَّ السكون مرَّة أخرى. صبيحة 13 آب 1949.