كان من المفترض علينا جميعاً ألا نولد. أن يموت أجدادنا ويرحلوا في العقد الرابع من القرن العشرين. هذا ما تريده إسرائيل التي تنتهج سياسة التطهير منذ البداية. إن ما يحصل الآن في غزة، ما هو إلا استكمال للمشروع الصهيوني الذي يروّج لنفسه أمام العالم، أن فلسطين هي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». فكيف تظهر مذبحة لا جثث فيها؟ هكذا كانوا بحرق الجثث والدفن الجماعي تحت الأرض وفي الآبار ليخفوا آثار المذابح.

()

كانوا يتعمدوا قتل الصغار، وبقر بطون النساء، وقتل الأجنة، لأن بطون الأمهات التي تنجب تعني ثورةً مؤجلة، وهكذا مرّة تلو الأخرى يستهدف الاحتلال الأجنة والأمهات والأطفال، حتى لا يكون وراء الحق من يطالب به، حتى لا يكبر الصغار وهم مغمسين بالثأر، حاملين على أكتافهم الدم الموروث.
في طور الإبادات الجماعية يبدأ الطاغية دائماً بتصنيف المجموعات أولاً: أبيض وأسود، ألماني ويهودي، الهوتو والتوتسي، صهيوني وفلسطيني. إنه يصنّف الناس على أساس العرق، أو الدين أو الفئة الاجتماعية، حتى يتورط العقل بلعبة الثنائيات «نحن» و«هم». إن المجموعة الأقل قوة أو عدداً هي الخطر الذي يجب إقصاؤه. نحن نعرف جيّداً معنى هذه المفردة. منذ تشكّل وعينا، نعرف أن اليد التي نضعها في الشنطة عند الحاجز من الممكن أن تعرضنا للإعدام يأتي أسرع من طرفة عين. وفي وعينا الداخلي ننظر إلى أنفسنا دائماً من عيون المحتلّ، وعلى هذا الأساس نتصرف.
كما سبق وحدث في رواندا بين الهوتو والتوتسي حيث قُتل بحسب التقديرات 75%؜ من الشعب التوتسي، واغتُصبت آلاف النساء، تجري اليوم الإبادة، في خطواتٍ محددة متناغمة، ولا أحد يردع فاعلها. لكي تبدأ بالإبادة عليك أولاً فرض مرحلة التباعد، أي إبعاد الفئات المسحوقة بعضها عن بعض، وتفريقها حتى لا تنشأ بينهم روابط. على هذا النحو، زرعوا الكيان الصهيوني، فقطّع أوصال الوطن العربي، وقسموا فلسطين إلى قطع، وصنعوا من الحق بين أبنائها ما يُختلف عليه. جعلوا من فلسطين التاريخية، من بحرها إلى نهرها دولتين. أعطوا أصحاب الحق فتاتاً وأخذ الاحتلال القطعة الأكبر من قالب الحلوة. من ثم تأتي مرحلة التمييز، أي حرمان الأقلية أو الفئة الأضعف من أبسط حقوقها، وشرعنة ممارسة الظلم عليهم، واتباع أيدولوجيات عنصرية معينة، مثل احتكار الوظائف أو المناصب. وهذا ما حصل مع الأيزيديين على يد داعش، إذ قُتل وخُطف الكثير بحجة أنهم من «الكفار». حرموا من الحقوق المدنية، وحتى الجنسية، وأدخلوا النساء الأيزيديات في طور الاستعباد الجنسي، وهذا مستمر حتى الآن. بعدها تأتي مرحلة الترميز، والتجريد من الإنسانية، أي نزع الأنسنة عن المجموعة المراد إبادتها عبر وصمهم وترميزهم، حتى يكون هناك مسوّغ صلب للإبادة إذا ما طلبه العالم. عندما بدأ هتلر حملة التطهير ضد اليهود برّر للعالم أفعاله بالقول:
«اليهود فئران قذرة، وجراثيم طفيلية، وحشرات ماصة للدماء وطغاة، إني أهب نفسي جهاداً ضد اليهود». جرى هذا على مرأى ومسمع العالم. عبر تحقير الآخر والاستخفاف به تتقلص المسؤولية أمام العالم عندما تريد القضاء على الأشخاص المفروضة عليهم الإبادة. وهذا تماماً ما فعله وزير الدفاع الصهيوني، عندما وصف الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية. عندما كان اليهود يحرقون في المعسكرات الألمانية، لم يتحرك العالم شبراً على أرض الواقع. أقصى ما فعلوه هو أنهم هرّبوا البعض منهم إلى دول أخرى، منها إلى بريطانيا وإلى فلسطين. اليوم يواجه الشعب الفلسطيني المصير نفسه، إذ يُطلب من السيسي أن يذهب فلسطينيو غزة إلى سيناء ريثما تنتهي الحرب. وبين الشعبين الهوتو والتوتسي كان يُطلق على شعب التوتسي لقب «الصراصير»، بهذا الشكل يصبح وقع الإبادة أقل على الضمير الإنساني الملفوف بالقطن، أي أن قتل الناس مرفوض، لكن قتل الصراصير لا وقع له على القلب، لا يؤثر شيئاً، فالصراصير تُسحق وتموت، لن يقف العالم لأن أحدهم قتل صرصوراً!
وحتى تكتمل الإبادة عليها أن تمر بمرحلة التنظيم. يعني وضع خطط لارتكاب الإبادات سواء عن طريق مليشات كما حدث في هجوم العصابات الصهيونية، أو عن طريق الطيران الحربي الذي يشن غاراته العنيفة من دون انقطاع على غزة، أو عن طريق القتل والحرب البيولوجية كما حدث في أميركا عندما أبادوا السكان الأصليين. ومن ثم يبدأ الاضطهاد، كمرحلة ما قبل الأخيرة للإبادة، حتى تأتي الإبادة وحينها يستخدم الطاغية كلّ قوته، يستحضر كلّ الوحوش، ويطبِق ما يُطبَق على «الحيوانات البشرية» و «الصراصير» و«الفئران» فيتعامل معهم على هذا الأساس. يستهدف الطغاة الفئة الأقل سناً، نظراً إلى تكاثرهم، أو حتى وجودهم بحد ذاته. هكذا يموت الأطفال، وتقتل النساء، وكلّ من في عمر الإنجاب والطفولة، حتى يضيع الحقّ بالتقادم. ومن بعدها يأتي الإنكار. تُخفى المذابح وتطمس آثارها. ينكر الطاغي حدوثها تماماً كما جرى في مجزرة المعمداني في غزة. لقد صرّح جيش العدوّ بأنه «قصف المستشفى ليمنحهم الموت الرحيم» وتراجع من بعدها عن اعترافاته بالمجزرة، ملقياً التهمة على الفصائل الفلسطينية.
إن ما يجري اليوم ما هو سوى «حرب إبادة مفروضة». كان من المفترض أن نموت جميعنا في هجوم العصابات علينا في القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين، تحاول إسرائيل قتلنا بكلّ الطرق، بكلّ ما استطاعت يدها أن تطاله، موت يأتي من كل مكان: على الحاجز، في المستشفى، في السجون، في البيت، في حضن العائلة، في الطريق إلى المدرسة. إننا جميعنا في طور الإبادة لكن بفارق الوقت والتنفيذ. ما لم نقف في وجه هذا المحتل معاً، سيغدو وجه غزة هو وجه الوطن العربي كله، وقتها سندفع ثمن هذا الهدوء المشين، وهذه الحياة المزيفة، دماً.