يوم الإثنين، تغلّب الإعلام الأميركي والأوروبي على نفسه في التزوير. كان ذلك حين أطلقت حركة «حماس» أسيرتين إسرائيليتين مسنتين هما يوشيفيد ليفشيتز (85 عاماً) ونوريت كوبر (79 عاماً)، بسبب ظروفهما الصحية بعد أكثر من أسبوعين على أسرهما في عملية «طوفان الأقصى» . تحدثت ليفشيتز إلى الإعلام بُعيد إطلاق سراحها، قائلةً إنّها «مرّت بالجحيم» وإن الحركة تعاملت معها على نحو «إنساني» وإنها «أكلت وشربت مما يأكلون ويشربون، وإن طبيباً كان يزورهم هي وأسرى آخرين كل يومين أو ثلاثة أيام». لكن اللافت في ما يخص ليفشيتز، أن الإعلام الغربي الناطق باللغة الإنكليزية، لم يسمع من ليفشيتز إلا عبارة «مررتُ بالجحيم»، في حين أن الإعلام نفسه، لكن الناطق بالعربية، تحدث عن معاملة «حماس» الجيدة معها.

لم تخجل القنوات الغربية مثل «بي. بي. سي» و«سي. أن. أن» في نقل رسالتين متناقضتين عما حدث مع الأسيرتين. في اللغة العربية، العنوان «كيف تعاملت حماس مع الرهائن الإسرائيليين؟» مرفقٌ بصورة ليفشيتز مع كلام على الصورة يفيد بأن المعاملة كانت حسنة. وفي اللغة الإنكليزية، نشرت صورة يوشيفيد ليفشيتز مع عنوان «مررتُ بالجحيم». كيف نفسر ذلك؟ ما الذي نفهمه من هذا الأسلوب المتذاكي الذي يحتقر المهنة أساساً؟ وأين الحقيقة هنا؟ هل هي لدى مشاهدي تلك القنوات باللغة العربية أم اللغة الإنكليزية؟ أسئلة كثيرة وشعور بخيبة الأمل والسخرية من تلك القنوات، ساد مستخدمي منصة X (تويتر سابقاً) بعد ملاحظتهم ما حدث.
في الأحوال كلها، منذ شنّ إسرائيل حربها على غزة، واظبت «بي. بي.سي» على نشر مقالات مريبة في الشكل والمضمون على موقعها الإلكتروني. أكثرها خبثاً مقالة نشرت في 16 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي: تسأل «هل بنَت حماس أنفاقاً تحت المشافي والمدارس في غزة؟». كان ذلك قبل أيام من استهداف جيش العدو «مستشفى المعمداني» في القطاع، موقعاً مئات الشهداء والجرحى. أهذا إعلام أم شراكة في الحرب؟ شكّل استهداف جيش الاحتلال لـ«مستشفى المعمداني» علامةً فارقةً في كيفية تغطية الإعلام الغربي للحرب، إذ بُعيد القصف، نقل الإعلام كله ما شاهده وما حدث فعلاً، أن غارة إسرائيلية استهدفت المستشفى، لتتحرك بعدها آلة الدعاية الصهيونية، أرباب الفبركات وتحوير الحقائق، وتروّج رواية إسرائيلية تفيد بأن صاروخاً فشل بُعيد إطلاق حركة الجهاد الإسلامي له وسقط على المستشفى، ثم أرفقت فيديوات تظهر صواريخ تُطلق من غزة. وبعد ساعات من المجزرة، بدأ الإعلام الغربي كله يتراجع عن روايته الأولى، ملقياً اللوم على حركة الجهاد الإسلامي. صحيفة «نيويورك تايمز» تراجعت بعد ساعتين عما نشرته، وقالت إنها سارعت في استقاء المعلومات من حركة «حماس»، ثم حاولت أن تتمركز في مكان وسطي، تاركة الأمر في خانة غير الواضح. ونشرت أخيراً تقريراً يتحدث عن تحليل صحافييها لفيديو الصواريخ الذي نشره كيان العدو، ووصل إلى نتيجة مفادها أن الفيديو يُظهر صاروخاً قادماً من «إسرائيل»، وليس من غزة، ويزعم أن الصاروخ لم يسقط حتى بالقرب من المستشفى بل على بعد ميلين منها وأنه قد لا يكون مرتبطاً بانفجار المستشفى.
هذا الإرباك في تغطية الإعلام الغربي للإبادة الإسرائيلية بحق أهل غزة، لا يأتي من إخفاق مهني أو من عدم دراية بالحقائق، بل هو أمر مطلوب ضمن سياسة نشر السردية الإسرائيلية حول ما حدث ويحدث من أجل استمالة عاطفة الشعوب الغربية، بهدف استكمال جيش الاحتلال إمعانه في قتل مواطني غزة وتشريدهم وتجويعهم. ولا ننسى تقرير صحيفة «بوليتكو» في 16 من الشهر الحالي، الذي كشف عن إغراق وزارة الخارجية الإسرائيلية منصات التواصل الاجتماعي كافة بإعلانات مدفوعة موجهة إلى الفئات الشابة في أوروبا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة. إعلانات صوّرت «حماس» على أنها «داعش»، مستخدمةً صوراً لأطفال من أجل استمالة قلوب تلك الشعوب.