يكفي أن تكتبَ اسم «آن» على مُحرّك البحث غوغل، وقبل أن تُضيف أيّ حرفٍ بعدها، تأخذك نتائج البحث إلى آن فرانك (1929-1945)، الفتاة اليهودية التي اشتهرَت بدفتر مذكراتها الذي دوّنت عليه يومياتها في فترة اختبائها من الجنود النازيّين في قبوٍ في أمستردام. لكنّ آن ليست الصغيرة الوحيدة التي نقلَت تجربتها ومعاناتها خلال الحرب والإبادة، فَـ «عبّود» المراسل الصغير من مدينة غزة المحاصرة واقعياً وافتراضياً بجدار حديدي يمتد من تحت الأرض إلى فوقها، وجدار عسكري من أعتى الآليات الحربية المنتشرة على خطٍّ حدودي مع القطاع، وجدار افتراضي يعزل غزة عن العالم لـِ 24 ساعة ويحجب توثيق الجرائم الحربية على منصّات التواصل الاجتماعي، ينقل الخبر اليومي بطريقته الخاصة.
عبد الرحمن بطاح المعروف على منصّات التواصل بـ «عبّود»

منذ أن نُشر كتاب «آن فرانك: يوميات فتاة صغيرة» (1947)، تحوّلت صاحبة المذكّرات أنيليس ماري فرانك بعد وفاتها بعامين إلى أيقونة أطفال المحرقة اليهودية وأشهر الكُتّاب الصغار، وأصبحت مدوّنتها التي تُرجمت إلى ما يقرب من 70 لغة حول العالم من أكثر الكتب قراءة حول الهولوكوست والاضطهاد والإبادة. كانت الفتاة المولودة في فرانكفورت التي انتقلَت عائلتها للعيش في هولندا عام 1934 مع اعتلاء هتلر الحكم في ألمانيا وسيطرة الحزب النازي على البلاد، وبدء اضطهاده لليهود، قد حصلت على دفتر المذكرات هدية عيد مولدها الثالث عشر . بعد احتلال ألمانيا لهولندا (1940) في الحرب العالمية الثانية، وتصاعد مخاوف اليهود من ملاحقة النازيين لهم، اختبأت مع أمها ووالدها وأختها في أمستردام ودوّنت على صفحات الدفتر يومياتها بين عامَي 1942-1944 حيث كان آخر ما كتبته في شهر آب (أغسطس). اعتُقلَت عائلتها نهاية ذاك العام ووضِعَت في معسكر الاعتقال «أوشفيتز»، ثم نُقلت وأختها إلى مخيم «بيرغن بيلسن» حيث توفّتا بعدها بأشهر قليلة من المرض وسوء التغذية. تحوّلت يوميات فرانك إلى مسرحية (1955)، ثم إلى عمل سينمائي (1959)، تلاه العديد من الأفلام، وأقيم مركزٌ باسمها، وأصبح منزل اختبائها في أمستردام متحفاً (1960) يُعد من المعالم السياحية الأكثر زيارة. تحتفل أهم المؤسسات والمنظمات العالمية والمواقع الإلكترونية بذكرى رحيل آن فرانك، فأينما تشيح نظرك تجد معلومات عنها على «هيستوري تشانل»، و«ناشونال جيوغرافيك»، و«هولوكوست إنسايكلوبيديا»، و«بي. بي. سي». حتى إنّ الأمم المتحدة أقامت في عام 2017 ورشة عمل لحوالى 500 طالب من المدارس الثانوية تحت عنوان «من اليأس إلى الإلهام: الذكرى السبعون لمذكرات آن فرانك» لتكريم إرث آن فرانك والتعرّف إلى المحرقة وتأثيرها المدمّر على المجتمع اليهودي، ناهيك بالمطبوعات والكتب التي تناولت حياة فرانك -القصيرة- خلف المذكرات وصورها وحلمها في أن تصبح كاتبة وصحافية حين تكبر؛ مثل كتاب «آن فرانك ما وراء المذكرات: ذكرى فوتوغرافية» (1995).
كذلك يحلم عبد الرحمن بطاح (2006) ابن مدينة غزة، المعروف على منصّات التواصل الاجتماعي بلقب «عبّود»، أن يصبح مراسلاً ناجحاً ذا شهرة واسعة ويعرّف نفسه بـِ«مراسل الجزيرة» و«أقوى صحافي عربي فالعالم» (حرفياً كتب في تعريف حسابه على الإنستغرام). شاع اسمه بين الغزّاويين الذين وجدوا أنفسهم مراسلين ينقلون مستجدات الأخبار من بيوتهم وحاراتهم في ظلّ التعتيم الإعلامي على جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة منذ بدء معركة «طوفان الأقصى». رغم أنه موجودٌ على منصّات التواصل مثل «إنستا» و«تيك توك» من قبل العدوان على المدينة، ويقوم باستمرار بتسجيل فيديوهات مصوّرة من سطح منزله وفي أزقة الحي، إلا أنّ متابعيه ازدادوا بوتيرة سريعة وأصبحت فيديوهاته يتشاركها عشرات الآلاف من المؤيدين للقضية الفلسطينية والمتعاطفين عربياً وعالمياً مع الغزّاويين المحاصرين تحت آلة القصف الصهيونية. يمكن ملاحظة عدد المتفاعلين مع منشوراته قبل 7 تشرين (تاريخ عملية الطوفان) وبعدها، إذ ارتفع من 16 ألفاً إلى 430 ألفاً للفيديو المنشور بتاريخ 11 تشرين الأول (أكتوبر) حيث يظهر «عبّود» بلثامٍ على وجهه لحمايته من الدخان السام المنبعث من الغارات والصواريخ ذات الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً، ويحمل بيده «لمبة مربوطة بسلك كهربائي»، أراد عبرها استنساخ شكل ميكروفون المراسل التلفزيوني الذي يكون عادة موصولاً بكاميرا مصوّر القناة. في الفيديو يقف عبد الرحمن بطاح على سطح منزله، وفي الخلفية صوت القصف والقذائف التي يرميها جيش الاحتلال باستمرار على الأحياء السكنية في غزة، ويبدو دخان القصف يعلو في السماء. يقول عبّود: «إخواني رح نصير صحافة لإنه فش إشي ماشي بهالبلد». يقطع كلامه صوت الغارات فيعلّق بقوله: «الله أكبر»، ثم يُكمل: «طبعاً لا كهربا، لا مي، لا أكل، لا شرب، لا نت، فش إشي في الحياة، قطعونا عن العالم. حسبي الله ونعم الوكيل». يعود صوت القصف في الخلفية لكنه يكمل ويأخذ نبرة المراسل وباللغة العربية الفصحى يقول: «قوات الاحتلال تشن غارات متتالية على شمال قطاع غزة في الجنوب الشرقي»، ثم يضحك مازحاً إن كان كلامه دقيقاً جغرافياً أم لا، ويكمل: «في شارع الدّكة، فَضَحوا عَرْضها صواريخ من الـ4 الفجر وهُمَّ بضربوا فيها نفس الصواريخ.. كما نشاهد معكم الآن عدة غارات متتالية» ويختم الفيديو: «قناة الجزيرة، والله إنّي صحافي قد الدنيا، شركة الجزيرة اُطلبوني عالمطرح.. تمام». ويظهر من بين المعلّقين على الفيديو والمشجّعين له ولموهبته الفنانة السورية نادين تحسين بك والمخرجة المسرحية سحر عساف وغيرهم الآلاف.
تتّسم فيديوهات عبّود بالأسلوب المباشر والطريف المتناسب مع عمره وتجربته، فهو ينقل أخبار الحرب الشاهد عليها بطريقته الخاصة. يتحدّث بالعامية ثم يميل إلى الفصحى حين يود أخذ دور المراسل الجاد، لكنه يعود ويعلّق ساخراً على ما يجري حوله. على سبيل المثال، في الفيديو المنشور بتاريخ 15 تشرين الأول الذي يتحدث فيه عن تهديد العدو الصهيوني للغزو البرّي لمدينة غزة يقول: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، معكم عبّود من قناة الجزيرة وسوف نوافيكم بآخر التطورات من قطاع غزة». لكنه سرعان ما يضحك ويعلّق: «لا بَمزح».
يبتسم عبّود في معظم فيديوهاته وإن كانت جميعها مأساوية وفيها الكثير من الدمار والمعاناة، بنقل الحياة اليومية في غزة كما هي بلغة محكية بسيطة تصل إلى الجميع، كما جاء في الفيديو المنشور بتاريخ 21 تشرين الأول: «في كتير ناس بتسألني إنتو كيف عايشين في غزة؟ حَ قولكم كيف عايشين. متخيّل إنّك تصحى الساعة 5 الصبح عشان تروح عالمخبز وتلحق تكون من أول 50 عالدور؟ متخيّل إنّك رح تمشي من 3 لـ4 كيلو (متر) عشان تعبّي غَلَن مي حلوة، متخيّل إنّك رح تدخل الدكان أو السوبرماركت وتدوّر على حاجة تاكلها بالآخر تشتري جبنة لإن فش عندكو غاز تعملوا أكل؟ متخيّل إنّك رح تمشي من نص ساعة لساعة عشان تلاقي محل فيه طاقة شمسية ويشحنلك الجوال 30 بالمية عشان يكفيك لطول اليوم؟ ومتخيّل إنّه هادا الواقع عنّا في غزة ومش خيال من عندي؟ الوضع آيس كوفي عالآخر». وفي فيديو عاد فيه بعد انقطاع الاتصال التام عن غزة لأكثر من 24 ساعة، وقف في الطريق ينقل الصورة من أمام مخبز معلّقاً: «يا زلمي أنا كنت آكل ربطة، هَالْكِيْت (الآن) صرت آكل رغيف إلّا (أقل من رغيف واحد)».
يحافظ على ابتسامته وحسّه الطريف في معظم ما يصوّره، ولا تغيب عفويّته في إظهار صموده وتكيّفه مع الحرب


في الفيديوهات الأخيرة القصيرة، يظهر عبّود حاملاً «مايك» صغيراً موصولاً إلى تلفونه محاولاً في هذه الوضعية ونبرة المراسل أن يقوم بهذا الدور بشكل جدّي، بينما يظهر في الخلفية وراءه صوت القصف والضوء المنبعث من الغارات. ربّما ما يميّز عبّود أنّه يحافظ على ابتسامته وحسّه الطريف في معظم ما يصوّره، ولا تغيب عفويّته في إظهار صموده وتكيّفه مع الحرب حتى تنتصر المقاومة الفلسطينية، فيقول في آخر فيديو نشره: «يا إخوان، عشان تعرفوا إنه نحنا شعب بحب الحياة، بدل ما نقف عند المخبز 8 ساعات هاي أنا والمصوّر حارقين الدنيا ومنعمل خبز صاج، خبز بلادي هاد من الـ1948 ما عملناهوش..».
قد تُنسينا لغة الغزّاوي عبد الرحمن بطاح ونبرته وأسلوبه الساخر أنّنا نتابع شاباً صغيراً في غزة المهدّدة من جيش الاحتلال بتوسيع التوغّل البرّي، وتكثيف القصف الهمجي، وتهجير سكانها إلى داخل الحدود المصرية بهدف احتلالها والقضاء على المقاومة الفلسطينية فيها. قد تنسينا ضحكاته الحاضرة في كل فيديو أنّ هذا المراسل الذي يدوّن الحياة اليومية وينقل لنا آخر المستجدات وتشهد كاميرا تلفونه جرائم العدو ومجازره، قد لا تستثنيه نيران جيش الاحتلال التي تسعى لإسكات كل من يرفع الصوت عالياً ويوثّق ما يريد العدو إخفاءه عن العالم. إن كانت آن فرانك قد نقلت خوفها من الاضطهاد وأزمة إسقاط الهوية/ الجنسية عن عائلتها اليهودية واختبائها من النازيين الذين أرادوا إبادتهم، بلغة يومية حقيقية غير مصطنعة، فإن عبّود فعل ذلك في ظروف أشد قساوة وظلماً، فهو يصوّر الفيديو والقصف يحدث في مكان قريب منه. فهل سننظر إلى عبّود وأطفال غزة الشاهدين على جرائم العدو الصهيوني مثلما نظر العالم إلى آن فرانك؟ أليست الجرائم التي يرتكبها الاحتلال والضغط النفسي الذي يقوم به الإعلام الغربي تجاه العرب والمؤيدين للقضة الفلسطينية هو «معاداة للسامية» أيضاً؟