لا شيء يحدث بالمصادفة، هكذا كان يعتقد مؤسّس التحليل النفسي والفيلسوف النمسوي سيغموند فرويد (1856-1939) الذي يُرجع كلّ سلوكاتنا البشرية واضطراباتنا النفسية ومنها الجسدية، إلى ما هو مكبوتٌ في اللاوعي. صحيح أنّه أَولى مرحلة الطفولة كل الاهتمام واعتبرها المحرّك الرئيس وراء تشكّل شخصية الفرد، فهي الفترة التي يخزّن فيها الطفل ما يراه ويختبره في الصغر من مواقف ومشاعر، إلا أنّ فرويد ناقش أهميّة الغرائز والرغبات الجنسية الأصل وغيرها من المشتهى والأمنيات والمشاعر - قد تكون إيجابية أو سلبية - التي تُقمع وتُكبت في باطن الشخص، فتنعكس في الظواهر السلوكية والأحلام (والكوابيس) والاستعمالات اللغوية وتعبيراتها. وفق أبي علم النفس الحديث، يمكننا أن نناقش دلالات استعمال اللغة و«زلّاتها» التي تشي بمكبوتات النفس، بعيداً قليلاً من منظور التحليل البنيوي اللغوي وفق مطوّر علم الألسنة ومؤسّس السيميائية فيردينان دو سوسور.
(محمد نهاد علم الدين)

في كتابه «علم النفس المرضي للحياة اليومية» (1901)، يقدّم فرويد التحليل النفسي بصورة تطبيقية على الحياة اليومية للبشر، محاولاً تفسير مختلف السلوكات العادية والممارسات اليومية التي تتخلّلها أخطاء صغيرة عفوية تبدو للوهلة الأولى بسيطة ولا تحتاج إلى تأمّل. لكنّ فرويد يقف عند هذه الأخطاء والزلّات والهفوات ليتوصّل إلى استنتاجات تفضح ما يحاول الشخص كبته في عقله الباطني. تطرّق فرويد في كتابه إلى مواضيع عدّة من بينها النسيان سواء كان متعلّقاً بنسيان الأسماء أو الوجوه أو الأحداث، والأخطاء التي تنتج أثناء قراءة نصٍ فتُشكّل حالة «صعوبة قراءة»، وزلّات اللسان أي التفوّه بكلام غير مقصود من قِبل صاحبه. الحالة الأخيرة التي يُشار إليها بمصطلح «الانزلاق الفرويدي» Freudian slip، يعتبرها رائد التحليل النفسي مرآةً لما يخبّئ المرء ويكبت من أفكار ومشاعر تراكمت مع الوقت. إذاً هناك نوع من العناد لما يكمن في داخل ذهن المتحدّث ومشاعره، ومقاومة لإرادته الواعية في قمع الحقيقة المجرّدة بهدف الحفاظ على نصٍ (كلامٍ) تمّ تحضيره ليخدم مصالح صاحبه. يناقش فرويد هذه الفكرة في ضوء ما قدّمه الطبيب الألماني فيلهلم فونت (1832-1920)، أحد مؤسّسي علم النفس الحديث الذي ربط بين زلّات الكلام وضعف إرادة الواعي التي تَجهد للسيطرة على كل ما يخرج من اللسان. فالانزلاق اللغوي وفق فرويد هو نتيجة فشل قوى القمع الداخلية في كبح الرغبة ومنعها من الظهور إلى الوعي، وبالتالي إنّ الهفوات اللّسانية ليست بريئة ولا يجب الاستخفاف بها وتبريرها على أنّها تظهر نتيجة التعب والإرهاق، إنّما العكس هو الصحيح، أي إنّ الإرهاق يضع العقل في حالة يصعب عليه حماية إرادة المتحدّث والمحافظة عليها بوتيرة مستقرة.
نعم، كانت هناك إرادة واعية للحفاظ على اللغة الموحّدة في الحديث عن الحرب على غزة، تشارك في استخدامها المثقفون والكتّاب والأكاديميون في الغرب، حتى أولئك الذين كانوا يدّعون أنّهم «معادون للصهيونية». لكنّ واقعية المعركة أظهرت بعد الأسبوع الثالث للحرب أنّ العدو الصهيوني لم يحقّق أهدافاً واضحة، فهو لم يستطع التوغّل برياً إلى داخل غزة ولم يتوصّل إلى أماكن الرهائن المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، ولم يتمكّن من استهداف أماكن المقاومة وقادتها. لأجل ذلك، انفعل الاحتلال عسكرياً وتعامل مع غزة بسياسة «الأرض المحروقة»، فتمادى في جرائمه الحربية محاولاً حرق كل شيء يمكن أن يستفيد منه خصمه بما فيها المستشفيات والكنائس والمساجد. انعكس هذا الواقع على الدبلوماسيين الصهاينة الذين ألقوا خطابات شفهية مصوّرة برزت فيها «انزلاقات لغوية» غير بريئة وفق مفهوم الـ Freudian slip، فضحت بها نوايا الخطيب ومشاعره التي حاول كبتها وقمعها في داخله خلال سيطرته على ما يخرج من كلامٍ على لسانه.
منذ معركة «طوفان الأقصى» التي بدأت في السابع من تشرين الأول، شنّ العدو الصهيوني حرباً مكثّفة على قطاع غزة فحاصرها براً وبحراً وجواً وارتكب فيها عشرات الجرائم الحربية من دون أن يردعه القانون الدولي أو يخيفه العقاب اللاحق لقصف مدارس إيواء النازحين من الأطفال والنساء، واستهداف مستشفيات القطاع، وتفجير مكاتب الوكالات الإخبارية والمؤسسات الإعلامية، واستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً. لكن جيش الاحتلال بقي محافظاً على خطابه في تجريم حركة «حماس» على قيامها بعملية «طوفان الأقصى»، وتبرئة نفسه من الجرائم التي لا يزال يرتكبها حتى اليوم في غزة بقوله إنّ مقاتلي حماس «يستعملون المدنيين في غزة دروعاً بشرية»، وإنّ المقاومة الفلسطينية تتخذ من أسفل المستشفيات «قواعد عسكرية» لها. لكنّ لغة الخطاب هذه وإن أراد الاحتلال استمرارها وتكرارها حتى تصبح واقعاً يصدّقه هو ومؤيّدوه قبل الآخرين، قد لا يستطيع دائماً قمع اللسان وفرض سلطة الوعي عليه، وبالتأكيد ستحدث زلّاتٌ لغوية تجد لنفسها طريقاً إلى الخارج.
في مقابلة لها على قناة الـCNN الأميركية، استنكرت تال هينريش، المتحدثة باسم رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، موقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش واتهمته بأنّه منحاز «ضد إسرائيل» وأنّ «معاييره المزدوجة مجنونة». خلال اعتراضها على خطاب غوتيريش والدفاع عن حكومة الاحتلال، انزلق لسانها وقالت: «أستطيع القول لك إنّنا لا نستهدف أحداً في غزة سوى المدنيّين، حماس آثمة». ثم تنبّهت إلى الخطأ الفظيع الذي ارتكبته فعادت وصحَّحت: «بل سوى الإرهابيين طبعاً». الأمر ذاته تكرّر مع أمير ميمون، سفير الاحتلال الإسرائيلي لدى أستراليا، في خطابه الذي قال فيه: «أنا أيضاً مستاءٌ منذ السابع من أكتوبر، التركيز في الوقت الحالي على الجانب الآخر، الناس يحاولون اقتراح أنّ هناك نوعاً من المساواة الأخلاقية. ليس هناك من مساواة أخلاقية، نحن لسنا الضحايا». لكنّه صمت لثانية متنبّهاً للمصيبة التي تفوّه بها، فعاد واعتذر مصحّحاً خطأه: «عفواً، نحن الضحايا، نحن لسنا المعتدين، عفواً».
«أستطيع القول لك إنّنا لا نستهدف أحداً في غزة سوى المدنيّين» (المتحدثة باسم رئيس وزراء العدو)

كان كلّ من هينريش وميمون يحاول الضغط على نفسه بهدف السيطرة على الوعي في سبيل ضبط اللغة وإيصال الرسالة المحضّرة مسبقاً، لكن الحقيقة الكامنة داخل كل منهما كانت أقوى من إرادة الوعي، ففي محاولتهما لقمع اللسان، انزلق وخرجت منه المفردات الصحيحة في سياق الحدث الذي يناقشون فيه. لم تقتصر الفضيحة هذه على الدبلوماسيين الإسرائيليين، فقد وقع رئيس وزراء كندا جاستن ترودو أيضاً في الانزلاق الفرويدي حين قال: «إنّنا نحتاج أن نرى وقف...» لكنّه توقّف وضرب بإصبعه على سطح المنصة الموضوعة أمامه لإلقاء الخطاب متراجعاً عن إكمال الكلمة التي خرج نصفها من دون قصدٍ على لسانه (ceasefire)، وصحّح كلامه: «نحتاج أن نرى هدنة إنسانية حتى نتمكن من التدفق، نحتاج إلى وقف مستويات العنف التي نشهدها». يعود تراجع ترودو عن طلب وقف إطلاق النار في غزة إلى امتناع الاحتلال الإسرائيلي والغرب المؤيّد له عن هذا المطلب باعتبار أنّه يُظهر ضعفه في هذه الحرب ويخدم المقاومة الفلسطينية في تخفيف الضغط عنها. ويمكن ملاحظة اللغة التي استخدمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة التي لم تتناول كلمة ceasefire في تصريحاتها بل استبدلتها بتعبير «هدنة إنسانية» humanitarian pause. مثلما فعل الرئيس الأميركي جو بايدن في قوله: «أعتقد، إننا نحتاج إلى هدنة تسمح بخروج الرهائن».

«الناس يحاولون اقتراح أنّ هناك نوعاً من المساواة الأخلاقية. ليس هناك من مساواة أخلاقية، نحن لسنا الضحايا» (سفير الاحتلال الإسرائيلي لدى أستراليا)


خلال شهر من الحرب التي لم يحقق فيها جيش الاحتلال وحكومته أيّ إنجاز عسكري، سمعنا مواقف وخطابات لكثير من السياسيّين والدبلوماسيّين الإسرائيليين والغربيين الداعمين للصهيونية «من دون شروط» الذين سارعوا إلى إدانة حركة «حماس» ووصف ما قامت به المقاومة الفلسطينية من عملية بطولية مذهلة بكلام من نوع: «جريمة شنيعة» و«عنف» و«إرهاب». كان هناك توحيد للخطاب واللغة والمصطلحات في الحديث عن «معركة الطوفان» رأيناه في أسئلة الإعلاميين والمحاورين على «أهم» قنوات التلفزة وأكثرها «احترافية» و«مهنية» مثل تلفزيون BBC. «إدانة حماس»، و«هل تدين ما فعلته حماس؟»، و«لا تستطيع أن تجلس هكذا من دون أن تدين حماس» وغيرها من الأسئلة التي كانت تُطرح على شكل Rhetorical questions أي أسئلة منطقية تطرح على الآخرين لكنّها لا تحتاج إلى إجابة، ولا ينتظر منها إجابة فعلية. كما كانت وزارة الخارجية الأميركية قد نبّهت دبلوماسيّيها في بداية الحرب عبر إيميلات داخلية عن اللغة التي يجب استخدامها في الحديث عن الحرب على غزة، وحذّرتهم من التعابير والمصطلحات التي لا تريدها أن تستعمل في أي تصريحات علنية أهمها: «خفض التصعيد/وقف إطلاق النار»، و«إنهاء العنف/ إراقة الدماء»، و«استعادة الهدوء» وفق موقع «هافينغتون بوست». وتجدر الإشارة إلى أنّ «هيئة الإذاعة البريطانية» BBC لم تستطع تحمّل ما يمكن تسميته «زلة لسان» مراسلتهم اللبنانية ندى عبد الصمد التي وصفت «حماس» بالمقاومة، فأوقفت من عملها بعد ما يزيد عن 25 عاماً من العمل لدى الإذاعة البريطانية.