كانت عين «ساورون»، وهي جرم سماوي ناري من الحقد، تلوح في الأفق بشكل مشؤوم فوق أراضي «موردور». وكانت نظراتها تجتاح الأرض في بحث لا يشبع عن الخاتم الأوحد. مصدر قوة «ساورون» ومفتاح هيمنته. كان هذا الكيان الخبيث الذي يجسد قوة «ساورون» المظلمة، منارة للرعب، يلقي بظلال طويلة من الخوف واليأس على قلوب الرجال. نظرتها تخترق الغابات والجبال، وحتى أعماق المحيطات. لم يكن هناك مكان آمن للاختباء، لأنّ العين ستعثر على ما تريد. كان الرعب رمزاً لقوة «ساورون»، ووعداً مخيفاً بالعقاب الذي ينتظر أولئك الذين يتجرّؤون على تحدّيه.«ساورون» شخصية ترمز إلى الشر المطلق في رواية «سيّد الخواتم» لجي آر. آر. تولكين، وكانت تحكم أرض «موردور» وتطمح لحكم الأرض الوسطى بأكملها.
إنّه اليوم الحادي والأربعين لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة. وعين «ساورون» الصهيونية في سباق مع الوقت بحثاً عن نصرٍ يُعيد إلى كيان الاحتلال شيئاً من هيبته التي اندثرت في أعقاب عملية «طوفان الأقصى». أكثر من 11 ألف شهيد، بينهم 4650 طفلاً و3145 امرأة، ولا صورة نصر واضحة أمام الاحتلال منذ بدء توغّله البري في 27 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي في شمال ووسط القطاع. يحاصرون غزة ويمنعون عنها الماء والغذاء والدواء والكهرباء والاتصالات. لا وقف لإطلاق النار يقولون. وأخيراً، وجدوا ضالتهم في المستشفيات (الخاتم الأوحد): «مجمّع الشفاء الطبي».

(جورج عزمي ــ مصر)

فجر أوّل من أمس، بثّت قناة «الجزيرة مباشر» مكالمة أبلغت قوات الاحتلال الإسرائيلي عبرها وزارة الصحة في غزة نيّتها اقتحام المجمّع. وأثناء البث المباشر، أعلم أحد الضبّاط الصهاينة، مدير عام وزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، بأنّهم سيقتحمون «مجمّع الشفاء الطبي». وقبل يوم من دخول الصرح الطبي، قال البيت الأبيض إنّ معلومات استخباراتية تؤيد الاستنتاج الذي توصّلت إليه إسرائيل بأنّ حركة «حماس» تجري عمليات عسكرية في «الشفاء». وقبل ذلك، نشر المتحدث باسم جيش الاحتلال، دانيال هغاري، فيديو تضليلياً عن نفق يبعد 200 متر عن «مستشفى الرنتيسي»، زاعماً أنّ «حماس» استخدمت المستشفى لاحتجاز الأسرى الإسرائيليين وشنّ عمليات عسكرية. وكل ذلك يحصل بتواطؤ إعلامي غربي، نقل الرواية الصهيونية حرفياً، وخصوصاً التقرير التحريضي الذي نشرته «هيئة الإذاعة البريطانية»، الشهر الماضي، وتساءلت فيه ما إذا كانت «حماس» بنت أنفاقاً تحت مستشفيات ومدارس غزة. تقرير شكّل ذريعة لمجزرة «مستشفى المعمداني»، تزامناً مع استهداف مستشفيات غزّة ومحيطها. كل هذه الأمور حصلت بشكل ممنهج لدفع الناس إلى تقبّل فكرة دخول قوات الاحتلال إلى المستشفيات وتدميرها.
عند منتصف ليل أوّل من أمس، اقتحم الجيش الإسرائيلي «مجمّع الشفاء الطبّي»، وبدأ استجواب مَنْ في داخله من جرحى وأطباء ونازحين. ووفق ما نقلت «ميدل إيست آي» عن شهود عيان، فإنّ الجنود فتّشوا كل الغرف والأجنحة، فيما طُلب من المرضى والأطباء ومَنْ يحتمون في الداخل المغادرة وسط إطلاق نار كثيف. وأرغم العدوّ النازحين وعائلات المرضى على ترك المكان، قبل بدء التحقيق مع الطواقم الطبية، وفق قناة «الجزيرة». وأنشأ الصهاينة نقاط تفتيش عند مداخل مختلفة للمبنى، مع توقيف أي شخص يدخل لاستجوابه. وفي هذا السياق، أكّد مدير المستشفى في اتصال مع «الجزيرة» استشهاد عدد من الموجودين في الداخل، من أطفال وكبار سن، من مرضى غسيل كلى وجرحى حروق.
للعدو تاريخ طويل في استهداف المستشفيات. اثناء حصار بيروت واجتياحها عام 1982، كانت مستشفيات المخيمات الفلسطينية تعاني نقصاً في الوقود والمستلزمات الطبية بسبب منع إسرائيل إدخالها. ومن المستشفيات التي استهدفت يومها، «مستشفى عكا» حيث قُتل العديد من المرضى والكوادر الطبية والأطفال والرضّع الذين كانوا في داخله أثناء مجزرة صبرا وشاتيلا.
الآن، بعدما حوصر «مجمّع الشفاء الطبي» بنحو 30 دبابة ووضع تحت سيطرة قوات الاحتلال التي لم تجد أي قيادي من «حماس» فيه ولا أي أسير إسرائيلي، استبدل العدوّ سرديّته حول المستشفى بأخرى. بدلاً من مقاتلين داخله، أفادت هيئة البث الإسرائيلية عن استشهاد خمسة مقاومين في محيطه. وفي هذا السياق، أضاف موقع «والا» العبري أنّه عُثر على أسلحة داخل المستشفى و«بنية تحتية أخرى لحماس». وهو ما كرّرته صحيفة «يديعوت أحرونوت». كما أصدر المتحدث باسم جيش الاحتلال، دانييل هغاري، أمس الأربعاء، تحديثاً في شأن ما سمّته إسرائيل بـ «العملية المستهدفة» في «الشفاء». وقال: «تواصل القوّات العمل بشكل مستهدف في جزء من منطقة «مستشفى الشفاء» حيث تمسح البنية التحتية والوسائل الإرهابية لمنظمة حماس الإرهابية». وزعم هغاري في منشور له على منصة X (تويتر سابقاً) أنّ «القوات سلّمت معدات إنسانية ووضعتها عند مدخل المستشفى»، مصحوبة بصورة لجندي إسرائيلي بجوار بعض الصناديق التي كتبت عليها عبارة «مستلزمات طبية» باللغة الإنكليزية، في حين أنّ طبيباً داخل المستشفى قال لـ «الجزيرة» إنّهم بلا ماء ولا غذاء منذ ستة أيام، قبل أن تؤكد «منظمة الصحة العالمية» أنّها فقدت الاتصال بالعاملين الصحيين داخل المجمّع.
تجنّد الإعلام الغربي بأسره لنقل الرواية الإسرائيلية


جعلت «إسرائيل» من «الشفاء» هدفاً رئيسياً لعمليتها البرية، مكرّرةً على مسامع العالم كلّه أنّ معقل «حماس» الرئيسي و«القلب النابض» لعملياتها موجود في أنفاق تحت المستشفى. ولبلوغ هذا الهدف، تجنّد الإعلام الغربي بأسره لنقل الرواية الإسرائيلية. وفي انتظار ما سيزعم الاحتلال اكتشافه في المكان، نشر حساب Eye On Palestine على X، تغريدة لافتة جداً، مقرونة بتعليق: «فقط لتكونوا جاهزين للبروباغندا التي سيتم نشرها غداً (حول مستشفى الشفاء)». فحوى التغريدة هو نص مقتطف من مقال نشره موقع tabletmag عام 2014، يكشف أنّ الاحتلال الإسرائيلي بنى قبواً/ مخبأ تحت «الشفاء» في عام 1983. ويشير المقال إلى تقرير نشرته صحفية «هآرتس» العبرية في 12 كانون الثاني (يناير) عام 2009، بقلم آموس هاريل، يقول إنّه «يتوارى كبار مسؤولي حماس في غزة في «مخبأ» بنته إسرائيل. ووفق ما يشتبه مسؤولو الاستخبارات، يُعتقد أنّ العديد منهم موجودون في أقبية «مجمع مستشفى الشفاء» في مدينة غزة الذي جُدّد أثناء الاحتلال الإسرائيلي للقطاع».
هنا، يتعيّن الأخذ في الحسبان دائماً، أنّه في أوقات الحروب خصوصاً، يستحيل الإعلام الإسرائيلي إلى قسم ميديا وعلاقات عامة تابع لقوات الاحتلال التي لا تسمح للوسائل الإعلامية على اختلاف أنواعها بنشر أي شيء قبل موافقتها. هي ليست مجرد رقابة بالمعنى المعتاد، بل توجيه عسكري واستخباراتي يجعل من هذه المؤسسات أداة فاعلة لنشر البروباغندا والسردية الرسمية لأحداث تخدم مصلحة الاحتلال.



القنوات اللبنانية في فخّ الدعاية الصهيونية
لم يكن الإعلام الغربي والخليجي وحده الذي روّج لحجّة إسرائيل في اقتحام «مستشفى الشفاء» مدّعيةً أنّ «حماس والجهاد تستخدمان المستشفيات بما فيها «الشفاء» لدعم عملياتها العسكرية». فقد تماهت غالبية المواقع الإلكترونية للمحطات اللبنانية مع الدعاية الصهيونية وتناست إجرام العدو بحقّ الأطفال وأهالي غزة، ناقلة الشائعات والأخبار المغلوطة التي عمل الجيش الإسرائيلي على نشرها لتمويه فشله في تحقيق أي انتصار في الميدان. في هذا السياق، نشرت lbci أمس على موقعها الإلكتروني خبراً يُفيد بأنّ «الجيش الإسرائيلي سلّم عتاداً طبياً وحاضنات وحليب الأطفال إلى مستشفى الشفاء». كانت الخطوة مفاجئة بتبنّي موقع المحطة خبراً يروّج للعدو، هو الذي أباد أكثر من أربعة آلاف طفل منذ بداية الحرب، ويُمعن في حصار الباقين الذين يُعانون الأمرّين جرّاء نقص المعدات والحليب. وكان مستغرباً سرعة نقل الخبر على lbci من دون تدقيق، قبل أن يتّضح لاحقاً أن الخبر عارٍ من الصحة. يقف وراء الخبر الناطق الإعلامي باسم جيش العدو أفيخاي أدرعي الذي غرّد صباح أمس الخبر على تطبيق X قبل أن يحذفه لاحقاً عن صفحته في محاولة واضحة منه لتلميع صورة القوات الغازية.
ليست lbci الوحيدة التي وقعت في الفخّ، بل mtv أيضاً. منذ صباح أمس، عمل الموقع الإلكتروني للمحطة على الترويج لاقتحام جيش العدو «مستشفى الشفاء» بعناوين تبرز تقدّمه وتُسهم في التهويل والحرب النفسية على الفلسطينيين، بينما أهملت خبر فشل إسرائيل في العثور على أنفاق أو مقاومين داخل المستشفى. من جانبه، عمل موقع «الكتائب» الإلكتروني على تبرير اقتحام المستشفى، ناشراً خبراً حمل عنوان «لهزيمة حماس وإنقاذ الرهائن، الجيش الإسرائيلي ينفّذ عملية دقيقة في مستشفى الشفاء»، قبل أن يعود ويحذفه عن موقعه.