في مثل هذه الأيام من عام 2009 بينما كانت الشام تنعم بـ «عصرها الذهبي» على مستوى الدراما والثقافة، توجّب على جموع الفنانين والمثقفين والأدباء والصحافيين أن ينتظموا في صفّ مرتّب كي لا يزعجوا الكاتب الإسباني الكبير أنطونيو غالا (1930-2023) عندما كان يوقّع لهم روايته «غرناطة بني نصر» (دار ورد) في أحد الفنادق الدمشقية المعروفة! بالمصادفة، تجاور على «الطابور» كلّ من السيناريست نجيب نصير والمخرج الراحل حاتم علي، لتندلع بينهما شرارة سجال عالي المستوى عن جوهر توجّه مسلسل «التغريبة الفلسطينية» (2004 ـــ كتابة وليد سيف وإخراج حاتم علي)، وخصوصاً أن كاتب «الانتظار» (كتبه بشراكة حسن سامي يوسف وأخرجه الليث حجو) كان يعتقد بأن العمل يمثّل توجّهاً إسلامياً ربمّا يعبّر عن وجهة نظر كاتبه من دون قدرة هذه الرؤية على إقناع أحد. علماً أنّ المخرج المرموق اعتاد أن يساير الرقيب المجتمعي، وتلك ميزة أرادها أن تكون سمة شغله، بقصد الابتعاد عن إثارة الجدل المفتعل، لمصلحة حصد الإجماع الجماهيري والنقدي معاً. وهو ما تحقّق ببلاغة في مسلسله «التغريبة الفلسطينية» الذي يعتبر اليوم مرجعاً تلفزيونياً أيقونياً، بذريعة تمايزه عن كل الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية...لاحقاً، سيردد لنا الراحل حاتم علي جملة وازنة عند سؤاله عن المحرّض الرئيس وراء رغبته في إنجاز هذا المسلسل، الذي وثّق لحقبة من النكبة بصيغة درامية بصرية مترفة بالتفاصيل المحكمة، إذ قال: «لقد تحوّلنا إلى أسوأ محامين يدافعون عن أكثر قضية عادلة في التاريخ! هذا كان هاجسي عندما نويت إنجاز مسلسل «التغريبة»». جمهور السوشال ميديا يسترجع، في هذه الآونة، لقطات مؤثرة من المسلسل، تحكي عن الجرح الفلسطيني النازف منذ عام 1948 وصولاً إلى غزّة اليوم، فيما يستعيد جزءاً من حوار تلفزيوني لصاحب «ثلاثية الأندلس» يحكي فيه عن كواليس تصوير المسلسل، فيقول: «بين المجاميع والكومبارس المختلطين سوريين وفلسطينيين، كنّا نسمع أثناء التصوير شهقات بكاء عالية، تحديداً في مشاهد التهجير، لأنّ من بين كل هؤلاء مَن كان يسترجع ذكرى نكبته وتهجيره عن أرضه فعلاً».
يحكي المسلسل رواية عائلة هُجّرت من أرضها بعد انخراط أفرادها في الثورة الفلسطينية الكبرى ومقارعتهم الاحتلال البريطاني ومن ثم اضطرارهم للعيش في مخيمات اللجوء. رصد العمل أيضاً تاريخ النكبة، وما زال حتى هذه اللحظة حاضراً بقوة رغم مرور قرابة عشرين عاماً على عرضه، وقد لمعت فيه أسماء بسوية أدائية ملحمية، وخصوصاً الراحل خالد تاجا وجمال سليمان وجولييت عوّاد... يمكن القول فعلياً إن المسلسل أُنجز عن القضية الفلسطينية ما عجزت عنه أعمال أخرى، بسبب تضافر مجموعة من العناصر الفنية على رأسها المقترح الحكائي المحبوك بصيغة عالية، والوعي الذي أضافه حاتم علي ابن الجولان المحتل، الذي عايش بعض المشاهد في طفولته، لكن في أرض جغرافية مجاورة، وأعاد تشكيل تلك اللحظات البصرية العالقة في ذاكرته ولا وعيه إلى مشاهد فنية، مع اختياره كوكبة من نجوم الشاشة المكرسين والواعدين آنذاك بدءاً من جمال سليمان وخالد تاجا وجولييت عواد وحسن عويتي وصولاً إلى باسل خياط وتيم حسن ورامي حنا ونادين سلامة ومكسيم خليل ويارا صبري...
ربما يكون إنتاج المسلسل حالة استثنائية في مرحلة كانت فيها الدراما السورية تملك القول الفصل في ما تريد أن تنجزه، لأنها كانت تحصد إعجاباً وإقبالاً لدى الجميع من محطات وجمهور ومعلنين وغيرهم. لم تكن هناك أي إمكانية لردع السوريين عن إنجاز مسلسلات تحاكي قضايا العرب الكبرى. في تلك المرحلة، قدمت الشركة المنتجة لهذا العمل، أي «سوريا الدولية»، أعمالاً كثيرة توثّق حقباً تاريخية أو تروي سيراً اجتماعية لقضايا واقعية حساسة...
في السياق ذاته، قطف «الاجتياح» (2007 ـ سوري أردني ـ كتابة رياض سيف ـــ إخراج الراحل شوقي الماجري ـ بطولة عباس النوري، ديما قندلفت، عبد المنعم عمايري، نضال نجم) جائزة «إيمي»، أهم جائزة تمنح لمسلسل تلفزيوني في العالم، بعدما أعاد صياغة المعاناة الفلسطينية لدى اجتياح الضفة الغربية وارتكاب الكيان الصهيوني مجزرة جنين عام 2002. تدور أحداث العمل الذي صوّرت مشاهده في أحياء دمشق، حول الأحداث التي دارت أثناء الاجتياح الإسرائيلي للضفة، وفرض الحصار على الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رام الله، وعلى «كنيسة المهد» في بيت لحم. تناول المسلسل أحداثاً من الواقع الفلسطيني، مركزاً على ما خلف هذه الأحداث من قصص وتفاصيل إنسانية بعيداً عن السياسة، مجسّداً واحداً من أبرز مشاهد التلاحم الديني الفلسطيني، عبر صلاة المسلمين في «كنيسة المهد» ودفن موتاهم فيها أثناء الحصار!
قطف «الاجتياح» (2007) جائزة «إيمي» بعدما أعاد صياغة المعاناة لدى اجتياح الضفة الغربية


يأتي في مراتب متأخرة عن هذين العملين، مسلسلات مثل «أنا القدس» (إخراج باسل وكتابته بشراكة شقيقه تليد الخطيب ــ بطولة: عابد فهد، كاريس بشار، نضال نجم، طلحت حمدي، وفاروق الفيشاوي وسعيد صالح والنجمة الأردنيّة صبا مبارك) الذي حاكى مأساة الشعب الفلسطيني خلال الصراع على القدس بين عامَي 1917 و 1967. المخرج ذاته تصدّى لمسلسل «عائد إلى حيفا» (عن رواية غسّان كنفاني ـ سيناريو: غسان نزال ـ بطولة: سلوم حداد، نورمان أسعد، سامر المصري، تولين البكري، صباح الجزائري، نوار بلبل) الذي رصد رحلة الألم والتشرد والعذاب التي عاشها آلاف الفلسطينيين في ذروة النكبة وسقوط حيفا عام 1948. تعقّبت قصص اجتماعية معاصرة واقع اللجوء الفلسطيني في سوريا تحديداً في مسلسل «سحابة صيف» (كتابة إيمان السعيد ـ إخراج مروان بركات ــ بطولة بسام كوسا، سلوم حداد، سمر سامي، كاريس بشار، ديمة قندلفت) الذي ركّز على مآلات مجموعة من اللاجئين العرب أبرزهم الفلسطينيون، جمعتهم مدينة دمشق، مصوّراً الحياة التي يعيشها هؤلاء والخطوط التي تجمع بينهم.