منذ بداية الحرب قبل خمسين يوماً، وغزة تمارس أكبر عملية إحراج في التاريخ ببسالة مقاومتها وصمود أهلها. أحرجت العدو، وكشفت الصديق، وعرَّت الدَّعي الذي ركز إلى الذلة في وقت السِّلة. أحرجت النخب العسكرية، والإعلامية، والثقافية، والتفاوضية، والسياسية. أحرجت غزة النخبة الاستخبارية والأمنية والعسكرية الصهيونية، قبل بدء المعركة وخلالها وفي أيام الهدنة، ولا يزال الإحراج برسم احتمالاته الكثيرة بعد انتهاء الحرب. لقد سبق إحراجُ النخبة الاستخبارية بسنوات لحظةَ السبت والسُّبات في صباح يوم العبور الفلسطيني في 7 تشرين الأول 2023 التي تلتها لحظة إعلان «طوفان الأقصى» حين جاء كصدمة كبرى للوعي واللاوعي الاستخباري الإسرائيلي الذي تُصنَّف آلته وتقنياتها وكفاءاته البشرية في طليعة مثيلاتها في العالم. وأحرجت غزة النخبة الأمنية الإسرائيلية وأجهزتها وإجراءاتها التي طالما تغنَّت بديمومة «جدارها الحديدي» وفعالية جدرانها الإسمنتية والشائكة استناداً إلى حكمة شارون البائدة بأنّ «فكرة الجدار أهم من الجدار»، ولم تشفع الفكرة ولا الجدار للنائمين خلفهما على تخوم غزة. وأحرجت غزة نخبة الاحتلال العسكرية في عقر قواعدها وقلب فرقتها الحامية لـ«غلاف غزة» والمحتمية به، وكان من بين ثاراتها إرسال هدية بأثر رجعي لإذاعة العدو التي طالما تبجَّحت بضربة 5 حزيران 1967 للجيوش العربية وبثِّها لأغنية «قولوا لعين الشمس ما تحماشي». واصلت غزة إحراجها لهذه النخبة بعدما حققت مقاومتها أهدافها الكبرى في الساعات الأولى من الحرب، وقد طارت الطيور بأرزاقها من الأسرى، وما تلاها من ساعات وأيام وأسابيع وأشهر من الصمود الأسطوري والاشتباك الملحمي من النقطة صفر... وواصلت غزة إحراجها لادعاءات جيش الاحتلال من المستشفى المعمداني حتى مستشفى الشفاء، ومن جبهة غزة إلى جبهات لبنان والجولان والعراق واليمن.
مروان البرغوثي

وأحرجت غزة، بإعلامها المقاوم وإعلامها العسكري من داخل فلسطين وخارجها، النخبة الإعلامية للعدو، وللرسميات العربية المتواطئة، وللعالم المشارك في الإبادة أو المتواطئ مع مقترفيها، وإعلام الرسمية الفلسطينية الذي يحارب ليل نهار «صنَّاع الفتن» وهو لا يزال يعاني من أعراض ما بعد الصدمة منذ عام 2007، وقد عزَّ الشفاء. أفلس إعلام العدو وأجهزة الـ«هسبراه» الخارجية والداخلية مادياً ومعنوياً رغم ما ضُخَّ فيها من مال وعسكرة في خدمة آلة الحرب وإسكات الداخل والخارج. وأفلس إعلام الرسميات العربية الناطق باسم «اللحظة العربية المريضة»، وحدود الحصار ومعابره المغلقة، ومعاداة جبن الجبل لشجاعة الساحل وقد خرَّ سقف «اتفاقيات أبراهام» وأخواتها على رؤوس ساكنيها رغم وعي الجماهير المسبق أن «القبائل أجَّرت قرآنها ليهود خيبر». وأفلس إعلام العالم المشارك في الإبادة والمتواطئ مع مقترفيها بعدما انتصرت الحقيقة على الوهم، وانقطع حبل الكذب الكهربائي القصير الذي يشدُّ كاميرات التصوير الحديثة والتي لا يمكن أن تكون لا سامية. وأفلس إعلام الرسمية الفلسطينية، عديم الكفاءة والموهبة، وهو يبثُّ صور الدمار، الفعلي، والانتصار، الفعلي، ويسمِّي فاعل الأول على استحياء فيما يطمس فاعل الثاني بلا حياء. أفلس هذا الإعلام الذي استنفر «أرشيف البطولة» قبل «زمن السلام» وأحياه وهو رميم، وهو يحوِّل كلِّي الغياب عن المعركة إلى حاضر مبني للمجهول، ويحوِّل كلِّي الحضور في المعركة إلى غائب بلا ضمير يدل عليه في «تغطية» إعلامية محرَجة ومحرِجة لم تبلغ «أضعف الإيمان». أحرجت غزة كل هذه الأجهزة الإعلامية المتساقية بإعلام الناطق العسكري الملثَّم باسم المقاومة الهازم لإعلام الناطق العسكري السافر باسم العدو في انتصار نادر لحقيقة اللحم على غبار الوهم، وحكمة الأقلام الخشبية على جنون «السيوف الحديدية».
وأحرجت غزة النخبة الثقافية الفلسطينية والصهيونية والعربية والعالمية. أحرجت الكثير من «البرمائيات الثورية»، مع الاعتذار لإدوارد سعيد، التي طال أمد انتقائيَّتها ونفاقها وخطابها الليبرالي الذي عمَّ حتى خمّ. أحرجت غزة النخبة الثقافية الفلسطينية ومؤسساتها واتحاداتها ومقولاتها وانحيازاتها إلى خطاب «احمونا» وهي تدرك أنه لا يحمي الحمى إلا حماته، لا من «يدافع عن كل قضايا الكون ويهرب من وجه قضيته»، ولا من يحب غزة ويكره مقاومتها، ولا من تسبّب باليأس المزمن للمتنبي الذي بُحَّ صوته وهو يصرخ «لا خيل عندك تهديها ولا مالُ، فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ»! وأحرجت غزة النخبة الثقافية الصهيونية ومن يغازلونها ويترجمونها ويمدُّون إليها جسور الود وتوق اعتراف السيد بعبده، وحنين الجلد الأسود لقناعه الأبيض... حين أظهرت هذه النخب لونها الحقيقي بالأبيض والأزرق اللذين لا تشوبهما شائبة. وأحرجت غزة النخب العربية التي توازي، من دون أي تكميم، بين أفعال «محور المقاومة» في بلاده وأفعال المستعمرين وحلفائهم من «محور الاعتدال» الإبراهيمي في بلادنا. وأحرجت غزة النخبة العالمية، الثقافية والأكاديمية والقانونية، حين عادت تلك النخبة إلى قبيلتها البيضاء التي عرَّفت حدود «عائلة الإنسان الكبرى» بالشمال العالمي، وتركت الجنوب فريسة سائغة لـ«حروب البربرية على التوحُّش» و«معارك المتحضِّرين على الحيوانات البشرية». احترقت النظرية البيضاء بنار حكوماتها المصبوبة على غزة، وصارت بعض جحيم غزة ورمادها المنذور للبحر. لكن إحراج غزة الأكبر أبى إلا أن يكمل «طوفان الأقصى» العسكري بـ«طوفان الوعي» الفلسطيني والعربي والعالمي الذي احتضنته الشوارع والميادين في أكبر حراك تاريخي مع الشعب الفلسطيني. وقد أنجزت هذا الطوفان ثقافة المقاومة وذاكرتها الحية، والتضامن العالمي الذي توجهه حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها التي سبقت كثيراً من الفلسطينيين والعرب، ومؤسساتهم المصابة بالخدر، في ملاحقة المجرمين في لاهاي وأخواتها.
وأحرجت غزة النخبة التفاوضية، بعدما وضعت نخبتها العسكرية ترسانتها الحربية، التي بنتها باللحم الحي وأعداد ما لديها من أسرى ببدلاتهم وأرقامهم العسكرية، على الطاولة، وشعارها في الميدان هو ذاته شعارها في التفاوض: «حُطِّ السيف قبال السيف». لقد فرضت مقاومة غزة الهدنة المتجددة بعد أكثر من أربعين يوماً من الصمود الأسطوري، لا لتغرق في ابتذال مقولة «استثمار السياسة لما حققته البندقية»، بل لتحرير الأسيرات والأطفال في السجون الصهيونية، ولتمنح إسراء جعابيص رقم 1 على قائمة الحرية. لم تنظِّم مقاومة غزة «عاصفة إلكترونية» لتحرير إسراء جعابيص وأخواتها ورفيقاتهن وأطفالهن، بل قالت وفعلت. فبعدما قرّر العدو وشركاؤه إخراج مكان غزة وزمانها و«قوَّة الأشياء فيها» من حيِّز الوجود، خرجت مقاومتها من بين الركام إلى «الساحة»، ساحة «ميدان فلسطين». هناك، التقطت كاميرا الإعلام العسكري، وفي الزاوية الذهبية لإطار الصورة، نصب «قبضة المقاومة» التي لا تزال تحمل الشارات التعريفية لجنود العدو الأسرى من حروب سابقة، فيما تقبض أيدي المقاومين على عشرات أضعافها اليوم. وفي مكاسرة الأيدي هذه، يتفق المحلّلون، بمن فيهم الصهاينة، على أنّ «اليد العليا» في الهدنة وصفقة التبادل كانت لغزة رغم حرب الحصار وحرب الإبادة وحرب «الإغاثة». لا تزال تفاصيل الصفقة المتدحرجة برسم المزيد من عمليات التحرير على طريق «تبييض السجون»، التي تحرج العدو وإعلامه، كما تحرج الصديق، أو من هو في مرتبة الصديق من «شركاء الدم والقرار»، وإعلامه الذي يصوِّر «الإفراج عن الأسرى» كأنه تمَّ بكفالة مالية. أما في الغد القريب، حين تتم الصفقة الكبرى، التي صارت صفعة للعدو ومفاوضيه الجدد والقدامى، وتُبيَّض السجون، فسيخرج وليد دقة وأحمد سعدات ومروان البرغوثي وأبطال «نفق الحرية» وإخوانهم ورفاقهم، بعد تغييبهم الطويل، ليقولوا لحركاتهم وأحزابهم، ولجانهم المركزية ومكاتبهم السياسية، ما قاله موسى النبي لقومه حين عاد من مناجاة الله للخروج من التيه: «أين موسى النبي من عجل الذهب»؟!
أحرجت النخبة العالمية قبيلتها البيضاء التي عرَّفت حدود «عائلة الإنسان الكبرى» بالشمال العالمي


وأحرجت غزة النخبة السياسية الفلسطينية حيث بلغ الإحراج حدّ الإخراج عن الخدمة، وحين صار بعض الأوفياء من أبناء «فتح» يهتفون لغيرها. أحرجت غزة المؤسسة السياسية للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، بمؤسساتها، واتحاداتها، وأحزابها، وبناها الاجتماعية، وتشكيلاتها التنظيمية وخطابها الهازم لذاته، باستثناء مخيمات الفقر والكرامة والمقاومة في جنين ونابلس وطولكرم والبؤر الأخرى عموم فلسطين، حين قاد الشارع انتفاضته غير المعلنة انتصاراً لغزة التي في قلب عاصفة الموت، وهتف الشعب بلا جزع، رغم القمع: «الضفة بدها مروان مع صالح العاروري»، بعيداً من مأثورات «المصالحة» و«الانقسام» و«الاقتسام» وأكل الهوى. لقد أوصلت هذه الحرب التناقض بين مشروعين متوازيين إلى حدِّه الأقصى. مشروع الوجود والبناء والتحرير الذي تقوده المقاومة، وتحمله ثقافة الفداء والانتصار، وتدخل به التاريخ، ومشروع «التمثيل» والهدم والتبعية الذي انتهت إليه الحركة الوطنية التقليدية (منظمة السلطة أو سلطة المنظمة، سيان)، وتروِّجه ثقافة الهزيمة والخذلان، ويسير بها إلى خارج التاريخ. الأول نحت في الصخر لتعزيز قدراته المادية وتكريس شرعيته الثورية وتمتين حاضنته الشعبية وحراسة الذاكرة من الخلخلة، بما في ذلك تعريف العدو. والثاني عمل على هدم مؤسسة الفلسطينيين السياسية وتبديد قدراتهم المادية وتفكيك لحمتهم الشعبية والإمعان في الفساد والحكم بالنار والحديد، ومجاراة العدو الذي يحاصر غزة ويبيدها، والارتماء في حضنه حتى الموت في أرذل العمر. وحين لم يجد «الممثلون» ما يمثِّلونه، لأنّ كل «تمثيل» تمثل، صرخوا: إنها «مؤامرة».
لكن العالم اليوم، وبعد أن راكمت غزة هذا الرصيد الهائل من الإحراج وتراكم فيها هذا الرصيد الهائل من الدمار الذي يحتضن عشرات آلاف الشهداء، الذين دُفنوا والذين برسم الدفن، وتستند إليه مئات آلاف الجرحى والنازحين المحاصرين بالملح والبارود، والمحكومين بالعطش والجوع والخوف والأمل... العالم اليوم مدين لغزة وأهلها بوفاء كبير بحجم تضحياتها ومعاناتها ولا يزال برسم التحقّق بعيداً عن «توازن» الناطق المحرَج باسم الألم وألوان العلم.

* القدس، فلسطين المحتلة