«العدو يواصل قتل الحقيقة» (الشهيدة الصحافية اللبنانية فرح عمر)

ليس غريباً على العدو الإسرائيلي ارتكاب المجازر والقتل العشوائي والتطهير العرقي. لكن منذ بدء حفلة الجنون الإسرائيلية بعد يوم الطوفان، يتعامل العدو مع الصحافي على وجه الخصوص كأنّه صاروخ فتّاك يُصيبه بالعمق، تماماً كما تفعل المقاومة بدبّاباته وتحصيناته في الجنوب والشمال، ما جعله يقتل 78 صحافياً حتى اللحظة في غضون 61 يوماً بين لبنانيين وفلسطينيين. هذا العدد بالمناسبة أكثر من ثلاثة أضعاف الصحافيين الذين قُتلوا في الحرب الروسية - الأوكرانية في عام ونصف العام، عدا الكتّاب والمحلّلين والمؤثّرين على مواقع التواصل الاجتماعي الذين قُتلوا في استهدافات مباشرة ومقصودة أيضاً. وهذا ما لا يمكن تخطّيه من دون معرفة سبب استهداف الصحافيين والنخب على وجه الخصوص.
يروي صحافيون في غزّة، أنهم تعرّضوا للتهديد بشكل مباشر من «الشاباك» بقصف منازلهم مع عائلاتهم، إذا لم يكفّوا عن نقل الصورة من غزّة. بعضهم قُتل مع عائلته، وبعضهم الآخر تلقّى خبر استشهاد عائلته، مثل وائل الدحدوح، الذي طلبت السلطات الإسرائيلية من «الجزيرة» استبعاده من شمال قطاع غزة إلى جنوبها. وهذا ما حصل، إضافة إلى إغلاق مكاتب «الميادين» في فلسطين المحتلة، بحجة أنّها «تضرّ بأمن الدولة».


مع ذلك كلّه، يعمد العدو أيضاً إلى قطع الإنترنت عند كل هجمة عنيفة تتعرّض لها غزّة، كي لا يُنقل ما يحدث داخل القطاع. في الضفّة الغربيّة، التي لم تكن في منأى عن ذلك أيضاً، باشر العدو الإسرائيلي في أوائل أيام الحرب، باعتقال عشرات الصحافيين والمؤثرين في مناطق الضفّة متهماً إياهم بـ«تهديد السلم الأهلي في إسرائيل». وفي لبنان، قتل العدو الإسرائيلي ثلاثة صحافيين كانوا يغطّون الأحداث على الحدود رغم علمه بهويتهم، إضافة إلى قصفه أكثر من مرة محيط مواكب الصحافيين لترهيبهم ودفعهم إلى المغادرة. كلّ هذا لأنّه يعلم أنّ الصحافة سلاح لا يقلّ أهمية عن باقي الأسلحة في الحروب الحديثة، وأنّها حاسمة في مسألة النصر والهزيمة، ولا يمكن تخطّيها. كما فعل في الحروب السابقة، اتخذ العدو قرار قتل الصحافيين فور بدء الحرب، للحدّ من العديد من الأدوار التي يقوم بها الإعلام وهي:
أولًا، فضح وتوثيق جرائم ومجازر العدو الإسرائيلي بحقّ المدنيين، وخصوصاً الأطفال والنساء في المدارس والمستشفيات والمجمّعات السكنيّة، وهو ما نفت الخارجية الأميركية قبل أيام أنّ إسرائيل تفعله ضدهم عمداً. ثانياً، الحرب النفسية التي يخوضها إعلام المقاومة في التعامل مع نقاط ضعف العدو، عبر الإضاءة على المستوطنات الخالية، وملف الأسرى، والمشكلات الداخلية بين المسؤولين الإسرائيليّين. ثالثاً، إبراز إنجازات المقاومة في دكّ مستوطنات ومواقع العدو الإسرائيلي، وتصدّيها لاقتحاماته، إضافةً إلى صمود الفلسطينيين في مناطقهم. رابعاً، إبراز جرائم العدو الإسرائيلي عبر البثّ الدوري لصور ومشاهد معاناة الفلسطينيين تحت القصف. خامساً، كشف الروايات الصحيحة والحقيقية، والتي تدحض ادعاءات العدو، كاتهام المقاومة باغتصاب النساء، وقتل الأطفال، أو قصف «مستشفى المعمداني». سادساً، الإضاءة على مشاركة دول الخارج إلى جانب إسرائيل في العدوان على غزة، وبالخصوص الولايات المتحدة الأميركية. ولهذا اضطر الأميركي للتسريب للإعلام في أكثر من مرة أنّه غير موافق على ما يحصل، موحياً بوجود تباين مع قادة العدو حول تفاصيل عديدة. سابعاً، دور الإعلام في صناعة الرأي العام العالمي وإحراج العدو. ثامناً، دور الإعلام في رفع معنويات المقاتلين والحاضنة الشعبيّة لهم.
ينشغل الحلف الغربي - الإسرائيلي حالياً بمؤثرين غربيّين على X يعتمدون على صحافيين ميدانيين داخل غزّة


بالتوازي، يضغط اللوبي الصهيوني في أميركا على مسؤولي Meta وX لفرض قيود وقمع كلّ مَن ينشر ضد إسرائيل تحت عنوان «معاداة الساميّة» بعد النتائج الوخيمة التي حلّت على الإسرائيليين في تلك الساحات: عربياً، أخذ صحافيون وناشطون ومنصّات على عاتقهم مسؤولية تغطية الحرب ومساندة الإعلام الفلسطيني، وبادروا من تلقاء نفسهم إلى تبيان الحقيقة وكشف زيف العدو، والردّ على الشبهات، فاحتلّت روايتهم المشهد.
وعلى صعيد الغرب، وفي سابقة من نوعها، ينشغل الحلف الغربي-الإسرائيلي حالياً بمؤثرين على منصّة X يقيمون في أميركا والدول الأوروبية، يعتمدون على صحافيين ميدانيين داخل غزّة، يلتقطون صور الجرائم والأحداث بهواتفهم ويرسلونها إليهم، فينشرون أمام الملايين من جمهورهم كجاكسون هينكل، وسام باركر وغيرهما. أمر جعل صورة إسرائيل مُغايرة عمّا في السابق عند شعوبهم. قتل الصحافيين (الذين اعتبرهم مكتب نتنياهو «شركاء في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية») ليس منفصلاً عن إستراتيجية الديبلوماسية الرقميّة أو ما يُعرف بـ«الهاسبارا»، التي يعتمدها الكيان عبر استخدامه وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق أهداف سياسته الخارجية، وإدارة صورته الداخليّة عبر تزوير الحقائق والتضليل، أو نشر السردية التي تلائمه، أو حتى تبرير الأخطاء، كتمثيلية «مستشفى الشفاء» والأنفاق. ووفق المعلومات، فإن ضغوطاً من حكومات غربيّة مورست على مؤثرين للنشر على حساباتهم محتوى يشمل تضامناً مع إسرائيل، وإدانة للمقاومة الفلسطينية. مع ذلك كلّه، وبدل الصحافي الواحد الذي تقتله إسرائيل، يخرج عشرات المواطنين من تحت الركام ويقولون: «نحنُ الحدث، والحقيقة باقية».