سوف يتذكّر كل من يُعنى بالحقيقة، ويؤمن بالتاريخ، ويقاتل من أجل العدالة الصحافي وصانع الأفلام الوثائقيّة الأسطورة الذي غاب يوم السبت في لندن عن أربعة وثمانين عاماً. طوال مسيرة مهنية مظفّرة استمرت أكثر من خمسين عاماً، قرّع الرأسماليين وأصحاب السلطة حول العالم، وأخذ على عاتقه الشخصي مهمة الكشف عن جرائم الحكومات الغربيّة، وتوحّش الإمبراطوريّة الأميركيّة على تعدد أشكاله حروباً وانقلابات وعقوبات وكذباً ممنهجاً، فكان جيشاً مقاتلاً تعداده رجل واحد. في وصيته الأخيرة، قال إنّه متيقّن بـ «أنّنا إذا بقينا صامتين بينما تستمر إمبراطوريّة الحرب الأميركية المنفلتة في مسلكها الدّموي، فإننا سنورث لأطفالنا وأحفادنا عالماً ذا مناخ مروع، وأحلاماً محطمة، وحالة من الحرب المستدامة». فهل نقبل بذلك أم نقاوم؟ تلك هي المسألة

لندن | «أنا، بطبعي، مناهض للاستبداد وأشك إلى الأبد في أي شيء يريد عملاء السلطة إخبارنا به. وأحس أنّه من واجبي دائماً، أن أخبر الناس عندما يتم خداعهم أو تغذيتهم بالأكاذيب» (جون بيلجر ) انطفأ يوم السبت 30 كانون الأول (ديسمبر) 2003، منارة الصحافة الغربيّة، جون بيلجر عن 84 عاماً. الصحافي الأسترالي البريطاني الذي أثار، طوال نصف قرن، عواصف من جدل لا يهدأ في سياق حربه الفرديّة المتواصلة ضد الإمبراطوريّة الأميركيّة وتوحّش منظومتها الرأسماليّة، حصل على عشرات الجوائز المهنيّة المرموقة والعديد من شهادات الدكتوراه الفخريّة، لكنّ أرفع تكريم لمجمل نضاله الأممي ربما جاء على لسان بوق الدعاية الغربيّة الأعرق هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي وصفته يوماً ما بأنّه «تهديد للحضارة الغربيّة».
لقد كان بالفعل كـ «سيف ديموقليس» مسلطاً على رؤوس طغاة الغرب في واشنطن ولندن وكانبيرا، ولم يسعفه الموت اللعين ساعات قليلة ليعلم وفقاً لوثائق رُفعت عنها السريّة للتوّ بأن حكومة رئيس الوزراء الأستراليّ سيّئ الذكر جون هوارد، أيدت خطّة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في العدوان على العراق (في 2003) وشاركت في الحرب التي ذهب ضحيتها ملايين الشهداء بناءً على معلومات «شفهيّة» استعرضها رئيس الوزراء لا أكثر. انتصار تأخر ساعات عن بيلجر الذي كان صوتاً وحيداً يغرّد خارج جوقة الصحافة الغربيّة عندما اختارت أن تكون شريكة متواطئة في سفك الدم العراقيّ حينها، فانتقد الأخرق بوش الابن حرب أميركا الصليبية الجديدة تحت غطاء مكافحة الإرهاب (المزعوم)، وجلد حليفيه الأشد حماسة منه لإطلاق جبروت ماكينة القتل الغربيّة ضد بلد صغير، توني بلير، رئيس الوزراء البريطانيّ، وذلك الـ«هوارد» الحقير. كتب بيلجر مقالات ناريّة، وألقى خطباً غاضبة، وتظاهر في الشوارع، وأطلق عملاً وثائقيّاً صار حجة على القتلة: «الحقيقة والأكاذيب: كسر الصمت بشأن الحرب على الإرهاب» (2006) بينما كان آلاف الصحافيين حول العالم، متطوّعين بخيارهم أو عملاء مأجورين، يرددون أكاذيب تعدّها مطابخ أجهزة الاستخبارات الغربيّة عن أسلحة دمار شامل يمتلكها نظام بغداد، ويتفلسفون في ضرورة تحقيق «انتقال ديموقراطيّ» في البلد العربيّ بمحض القوّة.

أكدّ في عامَي 1974 و2002 على ألا مناص من إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية

لا موقف غالبية الإعلاميين الغربيين في دعم حرب الإمبراطوريّة على العراق كان مستغرباً، ولا موقف بيلجر . فالمهنة في ظل الأنظمة «الديموقراطيّة» تحولت منذ الحرب العالميّة الأولى إلى ماخور لبيع الضمائر... ممارسة أقرب إلى الدّعارة منها إلى العمل المحترم، ومجرّد أداة في متناول النخب الحاكمة وأجهزة الاستخبارات. لكن بيلجر اختار باكراً أن يكون في الجانب الآخر كليّة: مقاتل عنيد من أجل الحقيقة والمستضعفين في العالم يوظّف عمله الصحافيّ كسلاح في وجه الاستغلال، وجرائم الدول، والإبادات الجماعيّة، والبروباغندا الغربيّة المسمومة. استغل دعوته إلى حلقة نقاش في «جامعة كولومبيا» في نيويورك عام 2006، ليدين «الصحافيين الذين يتحمّلون الكثير من المسؤولية عن الدمار والأرواح التي فُقدت في العراق، سواء عبر تصفيقهم للعدوان، أو عبر تبنيهم الصمت المخجل وعدم تحدي وفضح أكاذيب بوش وبلير».
عدو الإمبراطوريّة، كان صوتاً لكل (رعاياها) المسحوقين والمغيّبين عبر الكوكب: الفقراء الجياع، والمعوقون المظلومون، والمجندون التعساء، والشعوب المحاصرة، وضحايا العقوبات (الدوليّة)، وشهداء الحروب الإمبرياليّة، والمستهدفون بالانقلابات الأميركيّة، والبشر الذين عوملوا كفئران تجارب، والأقليّات المعرضة للإبادة، والمهجرون من أرضهم، والأعراق المهانة، والمهمشون بالخصخصة النيوليبرالية، وأصحاب الأرض الأصليون الذين أُخضعوا للاحتلالات الاستيطانيّة، وكل الذين يقتلون ببطء بقرارات وسياسات النخب الغربيّة. وفي كل قضية تبناها، صنع ضجةً وصخباً بداية من عام 1979 في كمبوديا عندما أماط اللثام في تحقيق له نشرته «ديلي ميرور» البريطانية عن الجرائم التي ارتكبها الخمير الحمر هناك وأودت بحياة مليوني شخص على الأقل من أصل مجمل عدد سكان لا يتجاوز سبعة ملايين، فيما كان مليونان آخران على شفير الموت جوعاً. نجا بيلجر من محاولة لاغتياله بعدما وضع على قائمة الاستهداف من قبل الخمير الحمر، لكن ذلك لم يردعه من إنجاز وثائقيّ يصوّر تلك المأساة (العام صفر: موت صامت في كمبوديا ـــــ 1979) شاهده أكثر من 150 مليون شخص حول العالم، وفاز بنحو 30 جائزة دوليّة وصنّفه معهد الفيلم كأحد أهم عشرة أفلام وثائقية في القرن العشرين. في هذا العمل، بيّن بيلجر الدور الأميركي في خلخلة الأوضاع داخل كمبوديا عبر القصف (السريّ) العنيف، ما سمح بسيطرة بول بوت (زعيم الخمير الحمر) على السلطة، كما فضح امتناع الحكومات الأوروبيّة عن تقديم مساعدات للشعب الكمبوديّ خوفاً من إغضاب الأميركيين.

من فيلمه الوثائقي «فلسطين ما زالت القضيّة» (2002)

وقال في فيلم تالٍ له في 1990 بأنّ قوات بريطانية خاصة من وحدات النخبة (ساس) درّبت القتلة من الخمير الحمر. وقد تمكّن بيلجر بفضل وثائقي «العام صفر» من جمع تبرّعات تجاوز مجموعها 45 مليون دولار صرفت بالكامل على أعمال الإغاثة في ذلك البلد المنكوب. كما ساعدت تقاريره الصحافية وفيلم وثائقي أنتجه عن تيمور الشرقيّة عام 1994 في وضع قضية ذلك الشعب المضطهد تحت الأضواء بعدما احتل الجيش الأندونيسيّ بلادهم بتواطؤ أميركي/ غربيّ، ونكّل بهم. وفي فيلمه «الفصل العنصري لم يمت» (1998)، أجرى بيلجر مقابلة مع نيلسون مانديلا تسبّبت في إزعاج النخبة الحاكمة في جنوب أفريقيا من البيض والسود على حد سواء بعدما أسهب في وصف «الفصل العنصري الاقتصادي» الجديد الذي أبقى العديد من الغالبيّة السود في حيز الفقر. وكشف بيلجر في كتابيه «دفع الثمن: قتل أطفال العراق» (2000)، و«حكام العالم الجدد» (2001) عن دور عقوبات الأمم المتحدة في إنهاك العراق طوال عقد كامل تحضيراً للغزو الغربي الذي قادته الولايات المتحدة بدعم دول عربيّة. كما رصد منهجية تدخّل الولايات المتحدة في دول أميركا اللاتينية في عمليه «الحرب على الديمقراطية» (2007)، و«الحرب التي لا تراها» (2010)، وطرد الحكومة البريطانية لسكان جزر شاجوس، في المحيط الهندي في الستينيات حتى تتمكن الولايات المتحدة من إنشاء قاعدة عسكرية لها هناك في فيلمه «سرقة أمة» (2004).
خبرته وثقافته الأممية منحتا أعماله البصيرة للنظر في ما وراء الحدث المباشر، فنبّه في وثائقيّاته إلى تململ الجنود الأميركيين من حرب فيتنام وتفكك الروح المعنوية لدى التشكيلات المقاتلة في مواجهة الفيتناميين الشجعان، إلى درجة أن بعض الضباط قُتلوا على أيدي جنودهم (انظر فيلم «التمرّد الصامت» - 1970 الذي استدعى شكوى رسميّة ضده من السفير الأميركي لدى لندن)، وأكدّ في عامَي 1974 و2002 على ألا مناص من إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية (فلسطين ما زالت القضيّة - 2002)، وحذّر في 2014 من تحوّل أوكرانيا إلى «مدينة ملاه للاستخبارات المركزيّة الأميركيّة». وكشف أنّ نظام كييف الانقلابي الجديد حينها يعد «لحرب عصابات يديرها حلف شمال الأطلسي ومن المرجح أن تمتد إلى روسيا نفسها»، وتوقع تصاعد العسكرة في اليابان، وخاطب في «الحرب على الصين» (2016) العالم كي يدرك نيات الولايات المتحدة المبيتة للتصعيد على نحو كارثي ضد بكين.
ولد بيلجر لأب نجّار في سيدني عام 1939، وأطلق أولى تجاربه الصحافيّة في مجلة المدرسة في الثانوية. وبعدها أكمل أربع سنوات من التدريب الصحافي الصارم في برنامج كان قد ابتدعه الصحافي الأسترالي الرائد براين بينتون، شكّل الأسس للغته الدقيقة والمحترفة التي رافقت عمله الصحافي للسنوات الخمسين التالية.
انشغل في أيّامه الأخيرة بقضيتين: فلسطين وصديقه جوليان أسانج واحتمال تسليمه إلى الجلاد الأميركي


كانت أستراليا أصغر من طموحاته، فغادرها في 1962 برفقة اثنين من زملائه إلى أوروبا، حيث أسسوا معاً في روما وكالة صحافة مستقلة لم يطل بها الوقت وأفلست، ما دفعه بعد انتقاله إلى لندن لقبول عرض عمل مع وكالة «رويترز» بداية في مكتبها للشرق الأوسط، ثم لدى صحيفة «ديلي ميرور» البريطانيّة التي كانت حينها أكثر صحف بريطانيا مبيعاً. أصبح وهو في العشرين من عمره كبير مراسليها الدوليين، وغطى لها حرب فيتنام، وكمبوديا، كما نقل لقرائها الأجواء المضطربة في الولايات المتحدة في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إذ سار مع فقراء أميركا في مسيرتهم من ألاباما إلى واشنطن بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ، وكان في عين المكان حيث اغتيل روبرت كينيدي، المرشح الرئاسي، في حزيران (يونيو) 1968. وفي بريطانيا، أدى مشروعه الاستقصائي حول 98 من الأطفال الذين تضرروا عند الولادة بسبب عقار الثاليدوميد، إلى الحصول على تسوية ماليّة خاصة لهم بعد استبعادهم بداية من تسوية الشركة الصانعة مع الحكومة البريطانية. كما قدّم تقارير عن العنصرية المتفشّية في المجتمع البريطاني، وانتشار الفقر، ومحاولات خنق القطاع الصحي العام خدمةً لأغراض الخصخصة. وعلى الرّغم من انشغالاته العالميّة، لم ينس مسقط رأسه، فأنتج عن أستراليا وشعوبها الأصلية وثائقيّات عدة بين عامَي 1983 – 2013 سجّلت جوانب متعددة من تاريخ حزين أريد له أن يغيّب وينسى. وقد أعلنت المكتبة البريطانية في عام 2017 عن تأسيس أرشيف خاص يضم جميع أعماله المكتوبة والمصوّرة.
انشغل بيلجر في أيّامه الأخيرة بقضيتين: فلسطين، وأسر صديقه جوليان أسانج واحتمال تسليمه إلى الجلاد الأميركيّ. كتب وتحدّث وتظاهر من أجلهما لكنّه مضى من دون أن يراهما خارج قضبان الوحش الإمبريالي الغربيّ. في مقالته الأخيرة التي نشرت الشهر الماضي قال: «جوليان (أسانج) وديفيد (ماكبرايد الذي كشف جرائم الحرب الأسترالية في أفغانستان) هما سبارتاكوس (بطل الحريّة التاريخيّ ضد الإمبراطورية الرومانية). الفلسطينيون هم سبارتاكوس. الناس الذين ينزلون إلى الشوارع للتظاهر من أجل المبادئ والتضامن مع الضحايا هم سبارتاكوس. نحن جميعاً سبارتاكوس إذا أردنا أن نكون كذلك». بلى. لقد اختار جون بيلجر أن يكون سبارتاكوس، فكان سبارتاكوس الصحافة الغربيّة في زمن الإمبراطوريّة الأميركيّة.