العناوين الثلاثة لهذا الفيلم تساعدنا على فهم ما يريد الممثل والمخرج كارلوس شاهين (1959) قوله في باكورته الروائية الطويلة. العنوان الأصلي فرنسي هو La nuit du verre d›eau (ليلة كأس الماء)، إشارة إلى أهمية تلك الليلة في الفيلم، وتلك الكأس من الماء. العنوان الدولي هو Mother Valley (الوادي الأم)، ذلك الوادي التي تدور فيه الحكاية. العنوان العربي هو «أرض الوهم»، الذي يبدو كبيان من المخرج عن ماضي لبنان وحاضره ومستقبله. يبني المخرج اللبناني فيلمه ببساطة، بين التوترات السياسية والطائفية التي هزت لبنان عام 1958، المعروفة باسم «أحداث 1958»، والثورات الشخصية ضد الطبقية والأبوية ومعاداة المثلية. يضع شخصياته في وادي في جبل لبنان، بعيداً من التوترات، ولكن عدم اليقين يحيط بكل شيء. المنطقة بعيدة عن بيروت، لكنّ أصداء التوترات تصل إليها. القلق وتحليل الوضع يشغل الرجال، ويثير بعض المواجهات الطائفية. يستخدم شاهين هذه التوترات العامة، لإظهار نوع آخر من الصراع، أكثر حميميةً وفرديةً، لثلاث نساء شابات منتميات إلى عائلة مسيحية إقطاعية، يشعرن بأنهن مسجونات في قفص ذهبي بناه الرجال من حولهن، ليصرخن ضد القمع والكآبة والطائفية والإقطاعية. في «أرض الوهم»، يخطو شاهين خطوة إلى الأمام في ما يتعلق برصانته الأسلوبية الجمالية التي لاحظناها في ثلاثيته العائلية القصيرة والحميمة عن الأب والأم والابن («طريق الشمال» / 2008)، و«تشيخوف في بيروت» / 2016)، و«ابن القمرجي»/ 2018)، ليستخدمها هنا ضمن حبكة حول جروح الماضي المفتوحة، عبر مزج تاريخ لبنان بذكريات ماضيه الطفولية الشخصية. فيلم سياسي يتحدث عن الأسرة والجنس والحرب والبحث عن الهوية والتاريخ والموت، لكن قبل أي شيء عن المرأة كركيزة تقوم عليها المجتمعات بأكملها.
في صيف 1958، في قرية مسيحية، تعيش عائلة الإقطاعي الشيخ داوود (أحمد قعبور)، وزوجته أوجيني (كريستين شويري) وبناتهما الثلاث. الكبرى ليلى (ماريلين نعمان بأداء متميز في إطلالتها الأولى على الشاشة الكبيرة)، متزوجة من بطرس (طلال الجردي) ولديهما طفل اسمه تشارلز (أنطوان مرعب حرب)، يبلغ سبع سنوات. نظراته مليئة بالارتباك الطبيعي في عمره، يلاحظ ويراقب جزءاً كبيراً من الأحداث. إذا كانت ليلى تمثل الزوجة والأم و«المرأة المثالية» التي تطلبها العائلة والزوج، فإن إيفا (جوي حلاق)، التي يحاول والدها تزويجها، هي الشابة الرومانسية اليائسة، التي تحلم بالحب. ثم تأتي ندى (روبس رمضان)، الأصغر والأكثر تمرداً، في السابعة عشرة من عمرها، على علاقة سرية مع صبي مسلم متواضع الحال، أولويتها في الحياة متابعة دراستها في بيروت. وإذا اضطرت إلى الزواج، فإنها ستفعل ذلك من أجل الحب. ديموغرافياً، يشكّل المسيحيون في القرية النسبة الأكبر في مقابل مسلميها المستائين من الطريقة التي يُعاملون بها. حتى إنّ بعضهم لا يتردد في مغادرتها. في هذا السياق السياسي والتاريخي والاجتماعي، يصل الفرنسي الدكتور رينيه (بيار روشفور)، ووالدته إيلين (ناتالي باي) لقضاء إجازة في القرية. وصوله سيوقظ رغبة خفيةً مكبوتةً داخل ليلى، كنافذة جديدة لمشاعر لا تعرفها، في بلد بدأت شرارة الحرب بالاندلاع فيه.
يرسم شاهين عالماً مصغراً يتميز بالسلطة الأبوية، ويتناوب الفيلم بين الظروف الخانقة التي تحيط بشخصياته النسائية، ضحايا قرارات الرجال (الآباء أو الأزواج)، رغم أن الدور الرئيس سوف يقع على عاتق إحداهن، وهي الكبرى ليلى. «أرض الوهم»، دراما لاكتشاف الذات، مع صورة أنثوية قوية تسعى إلى التمكين في وقت كانت فيه المرأة تحلم بالحرية، وتلتزم الصمت من باب الفرض. تتطوّر ليلى طوال الفيلم، وتكتشف قيمتها كامرأة تتجاوز مدى تفانيها كزوجة وأم. من ناحية أخرى، يرسم الفيلم لوحةً جداريةً دقيقةً للحياة في منطقة تقوم على التقاليد والغيبيّات، حيث صحّة المرضى تُعهد إلى الطوباويين، وتُقام الصلوات على تمثال العذراء «التي تبكي دماً في الكنائس»، بسبب الأوضاع واقتتال الناس لدوافع سياسية ودينية. في مقابلة أجريناها معه أثناء عرض الفيلم في «مهرجان عمّان» (الأخبار 21/ 8/ 2023)، قال لنا شاهين: «هذا الفيلم نابع من عالم الطفولة ومن عالمي الثقافي والديني (...) أنا المخرج وأنا رجل أصنع بورتريهاً لامرأة، لكن قبل أن أصبح رجلاً، كنت ولداً صغيراً. بالنسبة إليّ، وجهة نظر الطفل إلى هذه الأحداث هي وجهة نظر المخرج والكاتب والمشاهد أيضاً، فهو الذي يأخذنا إلى الأحداث، ونعيش معه مأساته التي لا يفهم منها شيئاً لكنها حاضره، وسوف تكون مستقبله في عام 1975». يعزز شاهين فيلمه أيضاً بمشاهد من الأرشيف (أرشيف لبنان عام 1985، «أحداث بيروت»)، ويقول: «يريد الجميع التحدث عن لبنان والوضع السياسي، لكن بالنسبة إليّ كي أتكلم عن الوضع السياسي، يجب أن أتحدّث عن عام 1958، لأنه مهم جداً. أردت التحدث عن هذه الشرارة، شرارة 1985 التي انتهت بسرعة، واعتقدنا أنّ الكابوس انتهى، لكنه لم ينته، بل إنّه بدأ».
يشبه الفيلم ومشاهده إلى حد كبير الدراما المسرحية حيث الحوارات الطويلة، والأسرار الملعونة، والشخصيات الهشّة في محيط عائلي ووسط مناظر خلابة. «أرض الوهم» ميلودراما صوِّرت ببراعة وأناقة، رصينة وهادئة، واضحة في أهدافها ومسارها، تعمل بشكل أفضل في لحظات العلاقة الحميمية بين العشاق أو التواطؤ بين النساء. هناك حلاوة ناعمة في التأمل بالشخصيات، التي تبدو راسخة في الزمن. باكورة كارلوس شاهين الطويلة ربما تكون متلعثمةً بعض الشيء، كلاسيكيةً جداً في صناعتها، لكنّها تقدّم بحساسية كبيرة النضال النسوي الرصين في ذلك الوقت. يظهر شاهين للمرة الأولى وهو ينظر إلى ماضي بلاده، ويسرد كل شيء ببطء، وبتفاصيل دقيقة من دون الوقوع في فخ الغموض. عاطفياً أو درامياً، يتطور كل شيء تحت أنظار بطلتنا ليلى، من دون أن تحتكر القصة، تاركةً مساحة للصراعات الاجتماعية والسياسية الأخرى التي تدور حولها.
نحن أمام فيلم، يغمرنا بالقليل، ويترك كل شيء يُقال ببطء، من دون تسرّع ومن دون تفاصيل لا صلة لها بالموضوع. ينقلنا بين التناقضات بإيقاع محكم. لا تترك الموسيقى أحداث الفيلم، فهي جزء أساسي في عملية السرد، تتكرّر بشكل هاجسي، تمرّر شعوراً بالخوف. هذه الإيقاعات الموسيقية تترجم هذا المناخ الثقيل الذي يسبق كارثة متوقعة، وتنقل اللحظات الأكثر دراماتيكية عبر الآلات الوترية الوفيرة. يُسرد الفيلم بما لا يقوله، بكل ما تصمت عنه النساء، ذلك الصمت المفروض والمؤلم. في الفيلم، يظهر النقد القوي لمجتمع مقيّد بالنزعة المحافظة والمتحيّزة جنسياً والطبقية ومعاداة المثلية. ولكن الرقة والحساسية اللتين يغطي بهما شاهين فيلمه وشخصياته، تحصّنان «أرض الوهم» من اختزال خطابه أو وقوعه في السطحية.

* «أرض الوهم»: بدءاً من 15 شباط (فبراير) في الصالات اللبنانية